الشاعران اللبنانيّ ـ الألمانيّ سرجون كرم والصينيّ غو تشنغ… والإدهاش ثالثهما

ليا نا

هو من أهمّ الشعراء المعاصرين، الذين أطلقوا على أنفسهم اسم «الشعراء الضبابيون»، ولقد كان متأثراً بأساليب الشعر الغربي وشعرائه، هو الشاعر الصينيّ غو تشنغ، الذي ولد عام 1956 وتوفي عام 1993.

رحل غو تشنغ، ليبقى حرفه قيد العودة، معطّراً أحاسيس تنهل من الدواخل معنى وعبرة.

فارقت روحه ذاك الجسد، لتنهل العاطفة من آخر، جنونه اتّقد، وبذاك الاسم انفرد، هو الشاعر اللبناني سرجون كرم. إنها الحكاية التي بدأت مع تشنغ، لتتواصل مع كرم. لقد حملاها كلاهما عبر خلجات قصيدة «رجل الثلج»، فكيف يلتقيان؟

قصيدة «رجل الثلج» سرجون كرم: ديوان سندس وسكّين في حديقة الخليفة ص.111 :

رجل الثلج ذاب

في انتظار طفولته

تاركاً أنفه البرتقاليّ تزرعه أمُّه

حكمة للأحياء:

لا يعرف نفسه إلا الخراب

رجل الثلج مشى

نما في عالم آخر

يصنع أنفاً حجرياً

لا يتركه لأحد!

قصيدة «رجل الثلج» غو تشنغ / ترجمة ليا نا :

عند بابكِ

صنعتُ رجل الثلج

فيه تقمّصتُ أنا الأخرق

في انتظاركِ الطويل.

جلبتِ مصاصة

قلب حلو

زرعتِه في الثلج

قلتِ هكذا عمّ الفرح.

لم يبتسم رجل الثلج

بل لزم الصمت طوال الوقت

حتى ذاب

تحت شمس الربيع

أين الرجل؟

وأين القلب؟

قرب بركة العبرات الصغيرة

لا أحد سوى نحل!

هل يجدر معانقة فكرة ريلكه بأن ينبوع الشعر في طفولة الشاعر؟ فلولا إحساس الطفل لما أشعل رجل الثلج عبر عاطفتين، لتطفآه كلاهما ويواصل بذلك الانتظار هناك…

لقد تشاركا، في البناء والهدم، في التآلف والفناء، لكأنّه الترابط دون الحاجة لرباط مادي، عبر تشابك الوجدان، والسفر في الأعماق، ليطرح عالم الفلسفة الخفيّ.

من الواضح أنّ مصير رجل الثلج في القصيدتين واحد، كونه ذاب في الانتظار الطويل. لقد تشابكت الكتابة، فالحرف بين أحضان قلم سرجون كرم تفوح منه أنشودة الطفل، لقد بناه من روح الطفولة وصمت الانتظار، في حين أن بنيان غو تشنغ ترجّل منه معنى الانتظار لحبيبته التي كتب لها هذه القصيدة عام 1979.

يا ترى ما الذي انتظره رجل الثلج هذا؟ والزمن لا يعود إلى الوراء. فكيف له أن ينتظر طفولته؟ ألم يدرك أنّ انتظاره بلا جدوى؟

إذا أردنا فهم هذا الإصرار، فلا بدّ لنا من أن نسلّط الضوء على تجربة الشاعر الحياتيّة. ولد سرجون كرم في بيروت / لبنان عام 1970، وحين بلغ الخامسة من عمره اندلعت الحرب الأهليّة اللبنانيّة التي استمّرت حتى عام 1990. اضطرّ خلال هذه الفترة إلى الهروب مع أهله مهجّراً إلى شمال لبنان. هذه الحرب سلبته طفولته وعاش محنة التهجير مع أهله لعدّة سنوات، وهذا ما يفسّر توقه العارم إلى الطفولة، وبحثه الجاهد في محاولة منه لاسترجاعها.

وإن اعتبرنا أن الطفولة تعني أيضاً الفطرة، فيجب أن نقف عند رؤية كرم حول الدور الذي تضطلع به، حيث يؤكد أن الفطرة هي البِرْكَة التي يخرج منها كلّ شيء ويلج فيها الإلهام ، كما تدخلها النبوءة، ومنها يشعّ كلّ شيء. وفي السياق الصوفيّ فإنّ الفطرة تعني البصيرة والحدس. من هنا، ينظر الشاعر سرجون كرم إلى الكون بعيني طفل، فيقول: دعني أرى كيف تخرج السماء من بيت نملة ديوان سندس وسكّين في حديقة الخليفة، ص.61 .

كذلك هو الحال لدى غو تشنغ، إذ ما زلنا نستمع إلى قوله: أرادت الأغصان تمزيق السماء، ولكن كل ما أنجزت هو بضع الثقوب الصغيرة، من حيث تسلّلت الأنوار، التي يسميها الناس النجوم والقمر.

فالطفولة هي المرحلة الأولى في الحياة وهي الأقرب إلى الألوهيّة، لهذا السبب كان الفيلسوف الصينيّ العظيم لاوتسو يدعو في كتاب التاو إلى الرجوع إلى حالة الجنين، أي الرجوع إلى بداية الحياة.

يذكّرني رجل الثلج بمسرحيّة «في انتظار غودو» لصموئيل بيكيت. هل هو الزمن الذي يحطّم البشريّة حتّى نموت؟ أم هو العبث؟ غودو الذي لا يأتي هو كلّ شيء يتمنّاه الإنسان في غربته الوجوديّة في هذا العالم.

تأتي الشراكة بين كل من تشنغ وكرم في محافظتهما على روح الطفل، بين عبثية الوجود وفوضوية الواقع، كلاهما يعتزّ بقيمة الإنسان، لدرجة أنّ غو تشنغ يعتقد أنّ الإنسان يمكنه أن يكون جميلاً كالآلهة، في حين يؤكد سرجون كرم أن لا قصيدة إلا الإنسان.

كان غو تشنغ مثل رجل الثلج، نقياً، غريباً لا ينتمي إلى هذا العالم، لذا قام ببناء العالم الخرافيّ في قصائده، معتبراً كاتب القصص الخرافيّة الدنماركي هانس كريسيان أندرسن ملهمه لدرجة أنّه كتب له قصيدتين.

لو تجاوزنا الصور الطفوليّة في أعماله سنشعر بوحدته الشديدة. هنا يلتقي تشنغ وكرم، بين أحضان الغربة، ليتجسّد رجل الثلج غير متفق مع العالم حوله، حيث ذهب لينمو في عالم آخر. الغربة المتجليّة في قصائد سرجون كرم خانقة، وهو الذي يقول: أريد أن أموت خارج هذه الأرض في مكان لست ضيفا عليه.

قسم اللغة العربيّة في كليّة اللغات الشرقيّة ـ جامعة شانغهاي ـ الصين

مراجعة: الإعلاميّة التونسيّة آمنة ونّاس

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى