كيف يرى «السلطان» جوهر اتفاق أستانة؟

محمد ح. الحاج

توجّه سلطان بني عثمان الجديد بخطابه الأخير إلى زعيم روسيا قائلاً: إذا هاجم الجيش السوري إدلب، فإنّ جوهر اتفاق أستانة يفقد معناه! فما هو هذا الجوهر؟

نعلم أنّ ما تسرّب من تفاصيل الاتفاق بين الأطراف الضامنة روسيا إيران وتركيا قضى بانتشار رقابة عسكرية في المناطق المتفق عليها لمنع التصعيد. وهذه الرقابة العسكرية محدّدة بوحدات من الشرطة العسكرية مع أسلحتها الخفيفة، ونعلم يقيناً أنّ الطرف الوحيد الذي خرق الاتفاق هو الجانب التركي الذي أدخل وحدات عسكرية مزوّدة بالمدرّعات والمدفعية الثقيلة، وانتشرت ليس في منطقة خفض التوتر بل تجاوزتها لتقف بوجه الجيش السوري وتحول دون استكماله السيطرة على الطريق الدولي حماة حلب.

لم يتسرّب عن الاتفاق تضمينه بنوداً سرية تعطي للطرف التركي حق إدارة المناطق التي تسلل إليها مدنياً، كالإشراف على المؤسسات ورفع العلم التركي على مبانيها وتكليف مدنيين أتراك بإدارتها ومنها المستوصفات والمدارس والمؤسسات والجمعيات وغيرها وربما التلاعب بالسجلات المدنية لهذه المناطق، وإمعاناً في التجاوز على التعهّد بالمهمة المحدّدة، يقوم وبدفع من الحكومة نشاط مدني تركي في تلك المناطق يشجع السكان على إظهار الولاء للحكومة التركية وأنه بالنهاية سيتمّ طرح مشروع استفتاء للسكان لبيان رغبتهم في الانضمام إلى تركيا مقابل وعود ومغريات كثيرة.

لم نحسن الظنّ يوماً بالجار التركي، فقد تكون ترجمته التركية للاتفاق ملغومة، أو أنّ السلطان يفسّرها بما يتفق وطموحاته ومزاجه السلطاني. ويعتبر ذلك هو جوهر الاتفاق، ويعتبر أنّ محاولة عودة الجيش السوري والمؤسّسات الحكومية إلى إدلب يتناقض مع مفهومه هذا أو ينسفه من الجذور كمخطط قيد التنفيذ رغم تكرار المسؤولين الأتراك حرصهم على ضمان سلامة وحدة الأراضي السورية المعروفة دولياً، حتى أنّ الخرائط الرسمية تتضمّن كامل أراضي لواء الاسكندرون الذي لم يسقط الحق السوري به رغم مرور الزمن، ولم تعترف أية حكومة سورية بتبعيته للدولة التركية.

مفاجأة من العيار الثقيل تلقاها الشعب السوري بعد اكتشافه أنّ بعض مكوّناته من العرقية التركمانية ما زالت تدين بالولاء لعثمانيتها، وتأييدهم موجات الهجوم على الوطن واعتقادهم أنّ عودة الإمبراطورية وشيكة وأنّ السلطان سوف يصلي فعلاً في المسجد الأموي في دمشق، بل قد يترأس الصلاة، أما النتائج التي جاءت صادمة لهؤلاء فهي فقدانهم السكن والأراضي والممتلكات كسوريين لم يول الشعب السوري اهتماماً لجذورهم، بل، لوجودهم ومشاركتهم الأخوية لباقي المكوّنات كمواطنين سوريين، وها هم تشرّدوا في الكثير من جهات الأرض وأغلبهم لجأ إلى تركيا التي لن تعطيهم ولن تعوّضهم ما فقدوه أبداً لا الآن ولا في المستقبل. وهي قد مارست ما فعلته السعودية بأبناء بعض العشائر الذين غرّرت بهم واستمالتهم بعاطفة الرابطة العشائرية فتجاوزوا الوطن وقتلوا أبناء جوارهم وخرّبوا المنشآت المشتركة لشعبهم، الكثير منهم يشعر الآن بالندم، ولات ساعة مندم.

السلطان المغرور يدرك أنّ تحرير الجنوب سوف يستكمله الجيش وبعدها لن يتوقف تاركاً القوى الغريبة، ومنها التركية تسرح وتمرح على مساحة محافظة بكاملها، بل، وبالتأكيد سينتقل بعد استكمال استعداداته للدخول إما إلى محافظة ادلب أو إلى ما بعد الفرات شرقاً وشمالاً وحتى آخر نقطة يعرفها العالم أنها سورية، وقد لا يكون خوف أردوغان محصوراً بهذه النقطة فقط، بل هو يفكر ملياً بوضع اللواء الذي تقوم الآن وحدات من أبنائه في الداخل أو المهجّرين بتنظيم صفوفها لإطلاق مقاومة للوجود التركي وطرده واستعادة سكان اللواء حريتهم والالتحاق بالوطن الأمّ الذي لم ينكرهم والذي سيعمل على عودة من ترك أرضه قسراً بفعل العسف والظلم التركي الذي طالهم على مدى أعوام من 1935 إلى 1939، يومها ضمن التركي أغلبية أعلنت موافقتها على ضمّ اللواء وكانوا من الأتراك الذين حلّوا محلّ السوريين الذين عملت السلطات على طردهم.

إذا كان السلطان العثماني يفكر بالطريقة نفسها التي مارسها أجداده في اللواء قبل ثمانين عاماً فهو يتوهّم النجاح. الظروف تغيّرت، والوعي الإنساني تطوّر، والرابط الوطني تجذر أكثر فأكثر في الأرض. وإذا كان النجاح قد حالف استخباراته فاخترقت بعض أوساط العرقية التركمانية وليس كلها والكثير من الاخوان التكفيريين ، فإنّ نتائج ما حصل سوف تتكفل باستعادة الوعي عند الآخرين، حتى الموجودين الآن في تركيا والذين ساهمت داعش بوصولهم تحت سياط القوة ولم تترك لهم منفذاً سوى باتجاه الشمال الحدود التركية التي كانت مفتوحة على مصاريعها – حتى هؤلاء ينتظرون استكمال الجيش السوري مهامه وإعادة الأمن والاستقرار إلى مناطقهم ليعودوا، أما مَن يتمسك بالولاء لعثمانيته فليبق عند السلطان غير مأسوف عليه، الوطن يفتح ذراعيه لأبنائه المخلصين التواقين للعودة.

قد لا يتفق كثير من المحللين والمتابعين مع السلطات على إجراءات نقل الكثير من المسلحين وعائلاتهم إلى الشمال وحصراً إلى إدلب، حيث جاءت النتائج مزعجة على أكثر من صعيد، منها إفراغ شحنة الكراهية والنقمة التي يحملونها باتجاه مدن وبلدات محافظة حماة، ومساهمتهم في دفع الكثير من سكان إدلب للهجرة باتجاه حماة خوفاً مما يحصل من صراع بين الفصائل، وأيضاً خوفاً من اللحظة التي سيقرّر فيها الجيش طردهم والقضاء على فلولهم واستعادة الأرض وشرعية وجود الدولة ومؤسساتها. وهذا بالذات ما دفع بأردوغان للقول إنّ جوهر اتفاق أستانة سوف يسقط. وهو يعلم بالتأكيد أنّ كلّ الاتفاقات ستسقط مقابل عودة الشرعية وما وجود قواته على الأرض إلا مؤقت ومحدود، لن يبقى إلى المدى الذي يتمناه، ومهامه محدودة بالمراقبة وليس الدفاع عن التنظيمات الإرهابية التي لم يبقَ منها هناك إلا النصرة المصنفة دولياً إرهابية والتي لا يمكن لـ السلطان الادّعاء بحق الدفاع عنها. يمكنه فتح الحدود لاستيعاب أدواته في أقرب وقت مع تمنياتنا له بحصاد أوفر وموسم إرهابي شامل في بلاده، في زمن لاحق.

الجواهر التي يراها السلطان براقة في قلب اتفاق أستانة، لا يراها غيره. فهي مجرد أضغاث أحلام تراوده ويحتاج إلى صدمة بسيطة ليستفيق منها، الأراضي السورية، السابقة منها والحالية تظلّ عظم سمك تقف في حلق السلطان، فإما يلحق به طبيب لينقذه أو أنها تتكفل بالقضاء عليه مخنوقاً بجميل أحلامه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى