الأدب… ما بين الثورة الفكرية وثورة الحرّية!

لوريس فرح

لم ينجُ الأدب في القرن الـ21 من مدّعي الفكر وممتهني الكتابة، بل نال النصيب الأكبر من حيث كثرة المتسلّقين على أكتافه بحجّة «الكتابة في متناول الجميع»، كشعار حقّ يُراد منه العبور.

بالتأكيد، الكتابة حقّ للجميع ولمن شاءها سبيلاً. أوليس هناك أرقى من مجتمع مثقّف مبدع، يقدح على زند القلم قبل أن يفكّر بقدح زند البندقية أوّلاً؟

من هذا الباب أقول، إنّ للكتابة ـ ومهما اتّسعت خطوطها العريضة ـ حدوداً ومعايير وجب على الكاتب الانصياع لها والوقوف على ضفافها. فالأمر ليس كما يظن الكثيرون بهذه السهولة، والتي تشي بأنها فقط محاكاة للواقع أو تصوير للأحداث… إلخ.

بالأعم الكتابة عمل ثوريّ، وهي بالفعل جديرة بأن تحمل على عاتقها هذه التسمية، بعدما يُسيّر دفّة حراكها المبدع الكاتب. فمهمة «الكاتب الثوريّ» وضع أسس كتابية جديدة ومغايرة، قادرة على هزّ قواعد من سبقوه الكتابية وزعزعتها، وإعلان فنّ كتابيّ جديد لا يتوسّل الحضور فقط. فالمهمة إبداعية صرفة تماماً. على رغم أن ما يُنظَر إليه اليوم على أنه ثورة في عالم الكتابة ـ وذلك بعدما اتّسعت الفضاءات ـ من الصعب على القرّاء التسليم والإيمان بها، لأنّ الكلّ مؤمنون بأنها فورة لا ثورة ولن تصبح نهجاً للأجيال الجديدة. إذاً، فلا خوف منها وما هي إلا قضية وقت لا أكثر، من منطلق لا بدّ من ظهور «مهديّ» الكتابة المبدع.

وفي هذا السجال، لا يسعني سوى أن أسأل: أين نحن من أصالة الكتابة الآن عما كان في السابق؟

أعود لاستحضر في ذاكرتي أسماء مهيبة حلّقت في سماء أدبنا العربي ولم تزل إلى يومنا هذا، منهلاً ونهجاً وأعلاماً، نتغنّى بعظمتها، كالنبيّ جبران ومي زيادة وميخائيل نعيمة وكثيرين ممّن أبدعوا وأتخموا ساحتنا الثقافية والأدبية جمالاً وروعة، وبالتأكيد لن أبخس كتّاب القرن العشرين حقهم، فهناك من الأسماء اللامعة والتي خطّت كلماتها بكل روعة وتفرّد مطلق، وخلقوا تحوّلاً محسوساً في عالم الحرف، مثل نزار قباني ونجيب محفوظ والماغوط وغسان كنفاني وأحمد شوقي والجواهري.

اليوم، وأنا أقف على مفترق قراءة، أمام هذا الرهط الكبير من المستشعرين والمستكتبين، أجول في حضرة هذه الأسماء في محاولة لاستنطاق حالة واحدة توازي بحقّ ممن ذكرتهم أعلاه، أجدني عاجزة عن استحضار اسم ما، يليق بالوقوف جنباً إلى جنب معهم إلا من ندرة نادرة.

مقال مهمّ استوقفني كتبه نزار قباني في مطالع السبعينات، وكان ذلك المقال بمثابة استشراف لما هو قادم… وكم هالتني قدرة الكاتب على التنبّؤ بما وصلنا إليه الآن، إذ إن المقال أتى تحت عنوان «الهيبيون يكتبون الشعر».

شبّه فيه القبّاني شعراءَ هذه المرحلة بـ«الهيبيين»، نسبةً إلى مجموعة بشرية زحفت في الستينات إلى شوارع أوروبا وميادينها الجميلة وحوّلت ساحاتها ونوافيرها إلى مزابل وحمّامات عمومية. ليؤكد أن هؤلاء الشعراء جاؤوا من العدم الثقافي، العدم الجمالي، العدم القومي والتاريخي، وأنهم بدأوا يحفرون الأرض ويدقّون ألواح القصدير ليقيموا عليها مستوطنات الشعر المستقبليّ… شعر عام 2000. وليست الحكاية وحدها مناطة بالشعر، فالنثر والرواية في القرن الواحد والعشرين أيضاً، لم يسلما من السقوط، فقد انحدرت أعمال كثيرة انحداراً مخيفاً في المستوى الأدبي، فبدا الكثير منها يقوم على التصوير الجنسي مثلاً، ليتحوّل الأمر، إلى مثابة عرض للعضلات في تصوير هذه المَشاهد كما الحقيقة، وتسمية الأشياء بمسمّياتها تحت إطار «يحقّ للكاتب ما لا يحقّ لغيره». ومن هنا، جاءت الاستفاضة المبتذلة الوضوح، من دون الآخذ بالحسبان حُرمة القارئ وخدش الحياء العام، تحت مسوّغ أنها محاكاة للواقع ولا شيء من الخيال، حتى بات الأمر مُنَفّراً وقبيحاً في الكثير من الأحيان لدرجة مستفزّة، لتذهب القصة إلى استبيانات المعارضة والقبول «الأهواء». وهنا الطامة الكبرى للأسف، عندما شجّعت وفتحت أبواب الوحي للكثير من الأقلام الشابة أن تسير على النهج نفسه مع زيادة في الإغراق. وعلى رغم الهجمات الشرسة على هذا النوع الرخيص من الأدب، إلا أنّ المدافعين عنه من القرّاء العرب كُثرٌ بحجّة أنه أدب، ولكن للحقيقة التي تقال، ما هو إلا فيلم جنسيّ أُطّر بإطار الأدب ليشرعن حضوره.

حبّذا لو كان القبّاني على قيد الحياة، ليرى كم كانت نظرته إلى الأدب المستقبلي ثاقبة من خلال معاينته ما وصل إليه الحال من تردٍّ.

الكتابة الآن تاهت ما بين النقل والنسخ والتقليد والتجميع والسرقة، وفي قمة عظمتها وحنكة كاتبها «العجان»، والعجان كمسمّى أطلقه الكاتب طلال مرتضى في كتابه الأخير «فأر الورق»، على من لمعت أسماؤهم في سماء فضائنا الأدبي الحالي بحوامل متعدّدة بحكم الانتماء الحزبي والمِللي والتابعية… إلخ، وهم ليسوا إلا محترفين بالتأكيد ـ وعلينا ألا نقلّل من احترافيتهم في هذا المجال ـ في فنّ المطبخ الأدبي إن صحّ القول، مستحضرين المواد الأولية ممّن أبدعها قبلهم من الكتّاب والذين كانت الكتابة لديهم محض فطرة وعفوية وإتقان وفنّ غير مكتسب إلا من بنات أفكارهم، ووليدة من جرّاء مخاض حقيقي مرّوا به، ليتم عجنها وإعادة تدويرها من جديد على يد العجّانين. ليصار إلى رفع صوت الوجع، هيهات ما بين العجن والإبداع! لأخلص هنا بسؤال العجب الذي أنهي به ما بدأت: أوليس الأجدر بنا لو قمنا أوّلاً بثورات ثقافية فكرية قبل افتعالنا ما أطلقنا عليه «ثورات حرّية؟»!

كاتبة سورية/ فيينا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى