هنا ينتهي الكون…

عبير حمدان

يقف «تموز» مزهواً عند أعتاب النصر يناول «آب» غيضاً من فيض بأسه ويصبح الركام حراباً من نور ونار… حين نرفع راية بلون الشمس لا نخشى عربدة العدو سواء ذاك الذي يطلق التسميات على حروبه المتعاقبة من خلف الشريط الأزرق الموعود بالأفول على أيدي رجال الله في لبنان، أو من هلل ويهلل له في الداخل تحت عناوين فارغة عن «حب الحياة» و«قوة لبنان في ضعفه»…

نحن أهل الأرض التي تعمّدت بطُهر الدماء نحب الحياة أيضاً حين نحياها بكرامة وبوقفة عزّ. نحبها حين نسمح للطير أن يحلق عالياً من دون أن تعترضه طائرات التجسس. ونحبها حين نرقب انسياب السيل بين أزقة القرى والمدن من دون أن يدنسها المحتل. ونحبها حين ننتظر الغيم والنجوم بمنأى عن المقاتلات الحربية التي لم توفر البشر أيضاً ذات نيسان وتموز…

نحن أهل المقاومة ونبضها، ندرك حجم قوتنا ومقدرتنا على الصمود كرمى للسهل الواسع بتقاطيعه الملونة وكرمى لبساتين الليمون وزبد البحر ومحار الشاطئ، وكرمى لنظرة تساؤل بريئة في عيون أطفال الشهداء وانحناءة شيخ على أضرحة ضمّتهم ودمعة الأم والأخت الساجدة في حضرة الغياب…

قبيل بداية العدوان وتحديداً يوم إعلان المقاومة عن عملية الأسر كانت صديقتي تحمل لي بطاقة دعوة إلى زفاف صديقة مشتركة، الزفاف كان مقرّراً في 14 تموز وبدأنا بالتخطيط، لكيفية الذهاب الى الحفل لقناعتنا أن ما من شيء سيحصل ذلك أن العدو جبان ولن يوسّع إطار ردّه. لكن القناعة بما نرجوه لا تكفي أحياناً!

أذكر أن شقيقتي قالت لنا يومها لا تطيلوا السهر فغداً سيكون يوماً طويلاً. وبالفعل أول الحقد دوي هائل، إنهم يقصفون مطار بيروت، وهو ليس بعيداً عن مكان سكننا، تفاصيل البقاء على أطراف الضاحية تشبه كل التفاصيل التي يرويها الجميع، لذا كان القرار حاسماً بشدّ الرحال الى القرية، هناك بالنسبة لوالدي ينتهي الكون.

كنت أظنّ أنّ الصيف القسريّ في القرية لن يطول، وأيضاً ظننت أنّ بيتنا العتيق هو الملاذ الوحيد لكلّ هذه العربدة الصهيونية التي توهّمت أنها ستحقق الغاية بتشكيل الشرق الأوسط الجديد، ولكن ولأول مرة توسّعت دائرة العدوان لتصل قرى البقاع الأوسط الذي لم يشهد يوماً هذا النوع من الحروب.

كثيرة هي القصص التي يمكن ذكرها خلال 33 يوماً من العدوان الهمجي الذي قوبل بالصمود الأسطوري من شعب أدرك مقدرة المقاومة على التصدّي وأحاطها بالدعاء والكثير من الإيمان بصدق الوعد، ولكن في البال تحضر الأفكار وفق قسوتها، أذكر كيف كنّا نكرر الاتصال بأخي الكبير ونطلب منه أن «يقرص» إبنته، وهي في الشهر الثالث من عمرها لنسمع صوتها على الهاتف، وكيف كنا نطلب من أخي الصغير أن لا يقصد الضاحية لاعتقادنا أننا نحميه ولو كنا بعيدين عنه، لكن في مكان ما كرهت رنين الهاتف كي لا أسمع ما لم أرد سماعه.

عشر سنوات من زمن الصمود ولا زالت العبارة تردّد صداها «أمي راحت». هذا ما قالته لي صديقتي في الأيام الأولى للعدوان. هي نفسها التي حملت لي بطاقة الفرح قبل يومين، الفرح الذي كان مقرّراً في 14 تموز بات موعداً مقترناً بحبر الخبر العاجل. ولم يزل الحبر سيلاً من حنين الى تلك الشهيدة الشاهدة على ضرورة تمسكنا بالمقاومة حتى آخر رمق.

لطالما كرهتُ صوت تكتكة الساعة في أوقات النوم، ولكن خلال 33 يوماً تعلّقت بهدير البراد الذي افترشت الأرض بقربه كي لا أسمع أزير طائرة التجسّس وهدير الطائرات الحربية…

كان أخي الكبير يلحّ علينا للذهاب الى سورية. وكان جواب والدي الصارم «هيدي ضيعتي وإذا متنا هون في مين يعرفنا». ونحن كنا نتعلّق بعبارات والدي ونرى في ظله الكثير من الأمان، لذلك تمسكنا بفعل البقاء. ولكني كثيراً ما فكرت أننا نعيش مشهداً من مسلسل درامي طبع في تاريخ الدراما السورية وحمل عنوان «التغريبة الفلسطينية». وكنت أخشى أن لا أتمكّن من رؤية شقيقي مجدّداً لذلك نذرت لله نذراً بأنني سأقبّل أيديهم وأقدامهم حين ألتقيهم بعد انتهاء الحرب.

بين لحظات الخوف والترقب بعضٌ من المواقف المضحكة، أذكر أنني كنت أقرأ الدعاء على ضوء القنديل الزيتي وما حولي مظلم حيث يفاجئني مخلوق أبيض صغير بأذنين طويلتين وقد دخل من كوة صغيرة يسمّونها «طاقة الهررة» تكون في البيوت الترابية القديمة، ولم أدرك إذا ما كانت صرختي المدوّية كفيلة بهروبه، بالفعل لقد ذُعر الأرنب الأبيض الذي تركه أصحابه جائعاً فقصد بيت الجيران، أيّ بيتنا، بحثاً عما يأكله وولّى هارباً فتبعه والدي وتبعته شقيقتي خشية على الوالد فقط، يكون مبعوثاً معادياً، لاحقاً أصبح هذا الأرنب نهماً لدرجة أنه قضى على كلّ الخضار التي نبتت في حديقتنا وعلى ما تضعه والدتي من فاكهة خارجاً لتجفّ بعد غسلها، حين أبحث عن بسمة من أيام العدوان أتذكّر صديقي «الأرنب» وأضحك حتى ينهمر الدمع.

لا أنسى لحظة قال السيد «أنظروا إليها تحترق»، كيف التفتنا وكأننا قبالة البحر، رغم أننا في البقاع كانت محطة تاريخية في مواجهة مَن وصفنا «بالمغامرين». لكن أكثر موقف حفر في روحي هو ردّ سيد المقاومة على «رسالة المجاهدين» للحظة ظننتُ أنني أكلّمه وجهاً لوجه وظننته قد رأى الدمع المتفجّر من عيني حين قال «أقبّل أيديكم القابضة على الزناد، أقبّل أقدامكم…». لم يمرّ في تاريخنا كلّه قائد بهذا النبل يخاطب شبابه بلغة التواضع والخشوع على هذا النحو، حينها أيقنت أننا منتصرون لا محالة.

في الليلة الأخيرة التي سبقت قرار وقف العمليات الحربية جلسنا جميعنا في غرفة واحدة. ربما لأننا أردنا أن نقضي كلنا في حال استهدف الطيران الحربي منزلنا الحجري القديم. وأذكر أنني أجبرت جارنا «أبو محمد» القومي العتيق الذي بقي وحده بعد ذهاب كلّ أفراد عائلته الى سورية هو في ذمة الله اليوم أن يبقى معنا بعد أن كان يقضي النهارات معنا ثم يذهب للنوم في منزله المحاط بالمراكز الاجتماعية المرتبطة بالمقاومة. وكان يتوسّد سلاحه متوقعاً الإنزال المعادي ويقول «حين يأتون سأكون بانتظارهم ولو قتلت منهم واحداً أو اثنين. المهم أنّي قتلتهم قبل أن يقتلوني». وكثيراً ما كانت قصصه تنسينا كل هذا الدمار وهول المجازر لبعض الوقت. طالت الليلة كثيراً وتأخر شروق الشمس، لكنها أشرقت على مشهد عودة أهل الجنوب إلى قراهم. وهو المشهد الوحيد الذي أكدّ لي أنّ الحرب انتهت، في ذلك الصباح تعلقت برنين هاتفي ليصلني صوت أحدهم، وهو صديق وزميل ومقاوم أصيل من موقعه، يبارك لي بالنصر ويؤكد لي أنّ أهل المقاومة ومؤيديها بصمودهم والتفافهم حولها هم مَن صنعوا هذا النصر…

عدت الى «ضاحيتي» أحاول أن أضمّ تفاصيلها وشوارعها ورأيت أنّ الياسمين يقيم في ثناياها، رغم كلّ الغبار الذي خلّفه الدمار ووفيت نذري برؤية شقيقي. وأخبرني أخي الأصغر أنه حين أتى إلى المنزل بعد نهاية الحرب لم يفعل شيئاً سوى مسح الغبار عن صورة السيد حسن نصرالله وصورة إبنة أخي الأكبر…

أن نكتب عن «تموز» الذي أشرق في منتصف «آب» نصراً مبيناً كمن يزرع المدى تبراً من حكايا الناس. هذه الحكايا التي لا يفقهها إلا من تنشّق نسيم الحرية وهو في رحم أمه، فقط من وُلِد حراً يدرك معاجم اللغة التي تُقيم عند فوهة البندقية التي تستوطن تلك الثغور. وفقط مَن يُشبه سنابل القمح الممتلئة ويتعطّر برذاذ الزعتر البري يدرك تفاصيل السرد، ومَن يؤمن بقدسية المقاومة حتى تحرير الأرض كلّ الأرض المحتلة يعرف كيف يرصف العبارات في مكانها من دون أي تأويل وفرضيات…

في حضرة الوعد الصادق تصبح الكلمات عادية وبسيطة ولعل بساطة التعبير أبلغ، حيث تزول السواتر الترابية التي أرهقت كاهل المكان والزمان، هنا يأتي البوح كفعل وجود، ويأخذ الحبر مداه كوثيقة تعيد تشكيل التاريخ، كما يجب أن يكون…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى