رواية «مهر الصياح» لأمير تاج السر… البحث عن ملوك الطلاسم وضحايا السحر!

وفاء شعراني

هناك وحدة واستمرارية ثقافة تبث في النصوص العربية خصائصها، في أثناء تكريم الروائي السوداني أمير تاج السر واستعادة قراءته، هذا الشهر، في طرابلس اللبنانية، كانت هذه المقولة تعود وتلحّ عليّ بشدّة. لا أنكر أن السعي إلى إظهار ذلك يتطلب التسليم بالتقاليد العربية الأساسية المجازة، ليس من باب رفض الفكرة الحداثية القائلة بانهيار الثقافة إلى أجزاء متشظية، كما أن ميكانيزم الحملقة على الطريقة السارترية أو الكافكاوية بوصفه تمعُّناً قهريَّاً ليس تعويذة طاردة للشر فإن للأسلوب الروائي وظيفة تأتي من جزءٍ في العقل، يعطيك القوة لتحويل العقائد، بنعومة، إلى متعةٍ فنية، تعويذتي الطاردة للشر أصنعها من اسلوبٍ مكثف يخلّد تلك الوحدة، وهي موجودة، لم تُهزم، ولا تزال مزدهرة.

يقول أمير تاج السر بأنه ولدَ لأسرةٍ حكّاءة، ومن هنا، من الحكي، نبعت له غواية السرد وفتنته، فردٌ ينتمي إلى جماعة، يخضع إلى انقيادٍ روحي، السودان تعويذته، والشعر، تكدّست في أعماقه حكايات ورغبات وإشكالات، تنبع من فكرة ناظمة لرؤية العالم ولا تبتعد عنها أثناء معالجة أحداث الرواية في مكان وزمان، يتبدّل المكان ويتغيَّر الزمان، يرحل أصحاب الحكايات وتبقى أصول مكونات الخطاب والقصة، تشعل الحكي، متلاحمة لا انفصال بينها، يسردها، من هذه البداية البسيطة المباشرة يتم إدماج السرد التاجي في سياق ثقافي ينشغل بتهدئة القلق الميتافيزيقي في السؤال عن المصير أمام القهر، رغد الرشيد والصياح، رغد هو مولاهم وسلطانهم، لا يمكن أن تحل محله الرياح أو الصقور، وهم يعرفونه في ذلك المكان، والصياح، صياح فخم أو إيقاع شجي أو الصوت الإنسيابي. في مجلس الكوراك ينادي المنادي بصوتٍ غليظ: مولاي السلطان، وأهل الرديم يخرجون للفرجة، مخترع العطور وحده لا يهتم بالعيد السلطاني إلا للبحث عن وجه الرزينة، الصياح هو الفعل الثابت يقبع في داخل أفعال الرواية، صدى قيمٍ ثابتة وأخرى متغيرة، الصياح محرّك دائم، والغناء محرك آخر، محرّكات الرواية كلها على نسَب واحد، نحن عندما نتوقف عند دراسة مصادر رواية «مهر الصياح» فإننا قد نعثر على معلومات دقيقة ومفيدة عن رغد الرشيد رغم الفاصل الزمني بين زمن الرواية وزمن القص، ولكننا بذلك نعطي الأولوية للجانب الوثائقي على حساب تقنية السرد. المهم أن نتجاوز إلى شيئ آخر، أن نرى بالرصد عن خيط النسب الطويل الذي يكشف عن امرئ القيس وعنترة، بين مفاهيم المحبة والصداقة والعشق والوله، أقصد فهمها انطلاقا من اللغة العربية ذاتها والمجتمع العربي ذاته، بما يمتلك تاج السر من حرية لغوية يريد أن يرفع بها نبرة صوت إنسان جديد هو نتاج محطات عبور وظروف جغرافية واقتصادية واجتماعية وثقافية شديدة التنوّع، لأجل خلق عالم جديد، لا لثورة ولا للتشديد على العلاقة بين الأدب والحياة، فهي ـ العلاقة ـ واضحة، تتوسع في نصوصها نساقا وأعراف جماعات.

في إعادة خلق لغة القص الشعري ينتعش نص تاج السر في عملية ثلاثية الأبعاد، علاقة المكان والزمان والإنسان القائمة في أطر السلطوية، لا تتوقف وتختلط بجهد كنا وجدناه في مقاماتٍ عبرت القرون الغابرة ونقله كما يقول تاج السر في إضاءةٍ وردت في أول الرواية بأن هذا النص مستوحى من التاريخ القديم لسلطنات كانت سائدة في السودان ردحاً من الزمن.

إن ما تحركه رواية من مشاعر تتسم بالنشوة والانفعال الوجداني العميق تدفع إلى التفكير عن سبب ذلك، لماذا ينفذ نصٌّ إلى كتلة صماء شديدة السواد قابعة فينا، إنه منحى السرد على قواعد كلية ونظم حرَّكت الأكاديميين العرب، يستحق هؤلاء التوقف عندهم مليا، يستحقون إدراجهم في مناهج كليات العلوم الإنسانية العربية على مساحة الوطن العربي، حرَّكتهم لاستنباط تراكيب ودلالات ومكوّنات «السردية» على قياس امتلاك «الشعرية» لنظمها، وربما لمنافسة «الشعرية». يعني أن للسرد العربي خاصيّة يعترف لها البعض بأهمية ما تمتلك من حساسية في مجال متابعة الأساليب الأدبية. إنها تلك القصص العجيب، يعطونها حقها في أن تكون في صلب التصنيفات الحديثة لمنهجيات التعامل مع السرد. إن شيئا ما قد أصبح مؤكدا، هو أن الأدب العربي منظورا إليه من قوة تأثيره في الثقافة العربية، وتأثّره بها يُبرز جوانب الدرس الكبير للأدب، هي في المقام الأول التفكير والتأمل حيث يحاول الروائيون البحث عن كيان بإيجاد الوسائل المناسبة للتعبير. إن إشكالية الفن القصصي وما يصاحبها من أقوالٍ عن أفول الرواية الملتزمة ذات التكنيك الطبيعي المعروف، مسألة مختلفة عن مضامين المادة السردية العربية الوفيرة المثيرة وتشعبها، لأنها تمنح ثقة متمادية لدراسات فنون السرد العربي على قواعد عمل مكتبي لتراث هائل، معلَّقاتٍ وسِيَر وملاحم وقصائد.

رواية «مهر الصياح» في خانة القصص العجيب ليس بهدف التصنيف أو الحديث عن الدراسة التاريخية للقصص رغم أن التصنيف ضروري كإحدى الخطوات الأولى في تصويب قراءة الأدب القصصي الروائي.

القصص العجيب ينطوي على بنية شديدة الخصوصية، لا اشك بأي إحساسٍ يراودنا خطأ على هذا اليقين. الرواية قصة عجيبة تدور حول مكان وعلاقته بشخوصه الأبرياء البلهاء، الأخوة، البطل، البحث عن الحب، وعن ملوك الطلاسم وضحايا السحر حيث تتخالط المآسي والمتناقضات في النفس والروح والقلب والصبر على تحقيق الأحلام. إن قدر صانع الطبول في مجالس الكوراك مسيرة مدهشة في الصياغة والوصف والرقة والحنان والكلم، يجتاز مراحل الزمن. آدم نظر والجبروتي ورزينة عالم محفوف بالمآسي، عالم مأساة يعطيه تاج السر قوة تقديم مجرد للإنسان، للبطل ليبقى على تلك الصورة البهية في السرد إنساناً في تفاقم المأساة، يعمّق تاج السر فلسفته الإنسانية على مدى تتابع الأحداث، حدثاً حدثاً.

ما يمكن تأويله في نص رواية تاج السر هو عالم قائم تسكنه الذات، وفيه يطلق تاج السر العنان لإمكانياته في إدراك كنه الأشياء.

كاتبة لبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى