الفساد ثقافة جارية… فكيف نتحوَّل عنه؟

د. رائد المصري

بهدوء… بدهشة وحيرة تتوالى فضائح الفساد في لبنان وتتكشَّف وتنكشف معها ثقافة الأغلبية الشّعبية من سياسيين ورجالات أعمال ونُخب علمية عالية، حتى طاولت هذه الثقافة البشعة مؤسسة الجيش اللبناني المنزَّهة أصلاً عن أيِّ خطأ أو فضيحة. فهذا السقوط السَّريع وطرحه المبكر أمام الرأي العام لمرض العصر اللبناني «الفساد» والفضائح المرتَكَبة من مافيات السُّلطة والمال والمنتفعين، رُبَّما يُنبئنا ببدء مسار قضائي ومسلكي سليم، وحتى تكون العبرة في الخواتيم توجَّبت المتابعة والتدقيق كي ينال المرتكب جزاءه بما فعل وارتكب. وهذا يتطلَّب بدوره جرأة ووعياً وتقدّماً في قيادة المشهد الانهزامي لهذه الطبقة الفاسدة التي بدأت تتآكلها الفضائح وتسقط واحدة تلو الأخرى، لكن بشرط أن تنعزل عن المحميات الطائفية والمذهبية وعصبيتها التي تتلبَّس في أحيان كثيرة لَبوس الدين، حتى تحمي نفسها وجماعتها من التهشيم الذي يطالها…

لن نقارن، وكما العادة بين لبنان والأردن والتوظيف الذي حكم منشأ كل منهما، ككيانين مجاورين لفلسطين، لكن أوجُه الشَّبه قريبة بين لبنان والعراق لناحية التركيبة الاجتماعية والانقسامات الطائفية والمذهبية والعرقية، والتي أفقدت النظام السياسي أيَّ فاعلية للعمل الديمقراطي الحرّ ولمبدأ سيادة القانون على الجميع. وهذه الأخيرة هي جوهر المشكلة لما تشكِّل من هيبة أمام عامة الشعب لمنع الشَّطط والانجراف نحو الارتكابات واستشراء الفساد وحماية المتنفذين له…

لا يجب النظر والتأشير بالأساس الى حجم مشكلات الفساد والتفلُّت من القانون والتفصيلات الكبيرة والصغيرة التي تحدث كلَّ يوم عشرات المرات من ضرب وتحايل على القانون ومن انتهاك فاضح للمؤسسات العامة والخاصة. وهو أمر مطلوب ومحمود لكنه لا يكفي. فحجم الفساد في لبنان كبير ومحمياته أكبر وأخطر وتتطلَّب مكافحته العودة الى الأسباب الحقيقية وليس البدء من النتيجة… بمعنى أنَّ تآكل المؤسسات وضرب القانون والجرأة في ارتكاب كلِّ الموبقات من قبل المحسوبيات والانتهاكات الحاصلة كلَّ يوم تقريباً. وما عرفناه مؤخراً سواء بما جرى مع مصرف الإسكان الذي أُنشئ أصلاً لطبقات ذوي الدخل المحدود وتمَّ السَّطو على مقدراته من قبل متنفذين بملايين الدولارات، أو فساد المتعهِّدين والإنشاءات التي تعطى وفق التعريفات المافياوية، أو عبر تنظيم شهادات جامعية مزوَّرة لعناصر عسكريين في الجيش اللبناني لأجل ترقيتهم، أو الرشى مقابل التوظيف في المؤسسات الأمنية التي تمَّ الكشف عنها، كلُّها تدلُّ على مدى جرأة مرتكبيها إيماناً منهم بالحماية الاستباقية التي توفرها لهم السلطة أو بعض أجهزتها أو المحميات الطائفية والمذهبية والعصبوية، إذا تطور الأمر.

وهذا يعني أيضاً بأنَّ مكافحة الفساد وضرورة الإعلان للبدء بها، سواء بما قرَّره وأراد السير به سيد المقاومة السيد حسن نصرالله، أو بما نادى به ولا زال، فخامة رئيس الجمهورية كصورة أوَّلية للعهد.

رغم التصميم والعزم على ضرب الفساد، فهذا لا يدخل في السياق العملي والعلمي لمكافحته، ذلك أنّ المعالجة حتى الآن تطال النتيجة والتداعيات لملاحقتها وليس الأسباب والمسبِّبات والتي هي مشكلة المشكلات، ونعني بها الاستبداد المقنَّع الذي تمارسه الطائفية السياسية منذ عشرات السنين على الناس. فللبدء بضرب الفساد علينا شلّ المحميات الطائفية والمذهبية أولاً التي تحمي المرتكبين، والانتهاء شيئاً فشيئاً من استبدادها المقنّع والمتستِّر بالستار الديني، وساعتئذٍ لا يجرؤ الفرد على الخروج عن القانون، لأنَّ العصب الطائفي والمذهبي فقد قدرته على الحماية نتيجة تعزيز حضور الدولة المدنية وسيادة القانون على الجميع، ولا يتمّ ذلك إلا بإلغاء الطائفية السياسية من الجذور، وإلاَّ فعبثاً كلّ المحاولات اليائسة. وعذراً من كلّ مَن أطلقها، لأنَّها لا تعطي نتيجة، بل وعلى العكس فإنَّها تعطي نتائج سلبية، لكونها تعيد إنتاج وتكريس الاصطفافات الجهوية والفئوية.

حتى لا نجلد الذات مرات ومرات، ورغم صفاء نيات البعض وعملهم الدؤوب والحرص على المؤسسات في لبنان وعلى سيادة القانون فيه، لا يمكننا الوصول الى النتيجة المرجوَّة من دون التدرُّج العلمي المؤسسي في معالجة أمور الدولة وسيرها نحو الصواب بالذهاب لمعالجة الأسباب التي أوصلت البلد الى هذا المنحدر ونعني به استشراء الطائفية وتفعيل محمياتها الوظيفية المتجذِّرة في عمق الجسد اللبناني، والوصول بالبلد لتكون فيه سيادة القانون طاغية والناس متساوين في الحقوق والواجبات، وإلاَّ عَبَثاً أيّ محاولة من دون إلغاء مبدأ تقدّم الطائفة والمذهب على كلّ شيء… وهذه الحالة المرعبة نجدها اليوم في العراق الذي دخل حديثاً في التحاصص الطائفي المذهبي والإثني العرقي.. وها هو اليوم يحتضر وينتظر من يسوقه الى المقبرة… فهل هكذا سيكون مصير لبنان؟

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى