طلال مرتضى يتخفّف من «كمين» بعدما رمى كرة اللعب في مرمانا!

فيينا ـ لوريس فرح

رفع عن ظهره وزر ما كتب، وبجرّة قلم نسف مبناه كلّه، ترك الجميع غارقين في خيبة حالهم. مثل لاعب بهلوان يمشي على سطر وجعنا، بقي متوازناً حتى نفثة الحبر الأخيرة التي تركها هنا.

توقّفنا أوّل السطر لنقطع حبل أفكاره، لكنّنا وقعنا من غير دراية ـ بعدما أشغلنا بقصص عشقه الأثيم للمدن النساء، دمشق وبيروت ـ في كمينه المحكم. وحين انجلت تفاصيل الحكاية بعد عصف من «قراءات تغوي الريح» كتابه، شكّك الجميع في أن «كمين» روايته، كانت البدعة التي مرّرها علينا بإرادتنا، لينسلّ من «فأر الورق» كتابه، بعدما رمى كرة أوراقه في ملعبنا!

طلال مرتضى، الكاتب السوري المهاجر، يد قابضة على جمر مفاتيح الحروف، ويد بعين عارفة الكاميرا ، لا تفوّت أيّ شيء قبل تؤصّل أو تدوّن، فكرته تقول: «لن أكون مارقاً في هذا المغترب، من غير أن أوثّق حقيقة ما حييت لسوريتي بالكلمة والصور».

«كمين»، بعد طباعتها في دمشق بداية 2018، وتوقيعها في شهر نيسان المنصرم في بيروت برعاية كريمة من «الحركة الثقافية في لبنان» و«جمعية حواس الثقافية»، لم تنته كما قال كاتبها: «الوتوتة» في ظهرها، لأنها قالت الحقيقة التي لا يريد سماعها أحد.

لهذا، كنّا وإياه وكمينه على موعد جميل في فيينا. هنا، قال الرجل ما له وما عليه.. وهذا بعد الندوة الحوارية التي أقامها «البيت العربي النمسوي للثقافة والفنون»، وأدارها الأديب السوري نبيل جديد.

كان الحضور في الندوة متواضعاً، فلم يتجاوز خمسين شخصاً، وهو أمر ندركه ويعود مردّه إلى مكان الرواية وزمانها، في جنوب لبنان وتدوينه حرب تموز، كان هذا سبباً ليقاطعها الكثيرون ممّن هم على الضفة التالية من الحرب على سورية الآن.

حضور النخبة العربية المثقّفة كان الرافع، فقد كانت مصر، السودان، لبنان، العراق، سورية، فلسطين، الأردن، وأصدقاء «نماسنة».

وللعلم أقول: إن «كمين» رواية طلال مرتضى والتي دارت أحداثها بين جغرافيتين بعيدتين عن بعضهما وزمنين الفاصل بينهما تجاوز ثلاثة عقود، عمل الكاتب بجهد ليصار إلى ربطهما بخيط رفيع من دون أن يكسر حضور الزمن الكتابي. فالبداية كانت مع بطله الطالب اللبناني الذي ذهب إلى أوكرانيا للدراسة إبان الاتحاد السوفياتي، ليلتقي حينذاك بزميلة له وتدور قصة حبّ جارفة تطول حتى نهاية سنوات دراستهما.

غيابها الفجائي فكّت لغزه رسالة تركتها له، وتدعوه من خلالها لأن يعود إلى بلده بعد أن نال شهادته، كذلك هي لبت نداء بلدها بعد حصولها على الشهادة أيضاً.

كانت صدمة الشاب أكبر من قدرة مداركه حين أخبرته إنها «إسرائيلية» وأنّ قصة حبّها له حقيقية ولن تموت، لكن شاءت الحكاية.

عاد إلى وطنه وعمل من جديد وتزوّج وأنجب طفلاً، لكن تفاصيل حكايته الأولى لم تفارقه، فهنا لعب الكاتب على وتر سردها استرجاعاً عبر تمرير الأحداث من خلال قراءتها من رواية أخرى يمرّرها البطل. لتدور عجلة الزمن الكتابيّ بانسياب.

ذات كمين حقيقي في جنوب لبنان، أسر فيه شباب المقاومة عدداً من جنود نخبة جيش العدو، أحد الشباب المقاومين هو ابن بطل المروية.

وقتذاك، قامت حرب تموز التي انتصرت فيها المقاومة وأجبرت «إسرائيل» على الرضوخ لشروطها.

ما هو غير مألوف ومقبول، والذي يعدّه كثيرون خطّاً أحمر يمنع الاقتراب منه، كتابو مقدّس، وهو ما عبره الكاتب من دون أن ينظر أو يحسب ما سينتج عنه تلك الخطوة الممنوعة. والتي كشفتها لنا خاتمة المروية، وبعدما ضعنا في زاوية الشلل اللعين أمام ذواتنا، ليقول عبر حواريات الرواية إنّ المقاوم الذي أسَر الجنديَّ «الإسرائيلي» المصاب ـ والذي أعطاه من دمه كي لا يموت لأنه يعي أن ثمنه حيّاً أغلى ـ هو أخوه من أبيه.

وفي مواجهة قاسية بين الكاتب وبطله، وعلى إثر خلاف بينهما، بعدما كشف الكاتب حكاية «البطل»، والذي قال له: «نعم.. لقد فَعلتها.. يا أبا سجاد.. وحبيبتك تركتك وهي حامل».

نبيل جديد يفتح دفتر «كمين»

ومما ورد في مداخلة الكاتب السوري نبيل جديد والتي جاءت على شاكلة استجواب أشبه بالحوار: لم يكتف طلال بحمل الكاميرا ليصطاد زمناً وجغرافيا، بل كانت له لغة شبيهة بالتصوير بالكلمات. يخاف كلمة شاعر، كما يرى في صفة راوي هيبة وإغواء..

لكنه دخل عالم الصحافة وخاض الشعر واقترف الرواية، فأنقذته الصورة الكاملة وفوتوغرافيا الكاميرا.

فكرة المقاومة وانتصاراتها تثير مسالة الأدب الملتزم أو بشكل أدق الأدب الملتزم بإيديولوجيات معينة، هل تضع روايتك في هذه الخانة؟

ـ جغرافية الرواية ومكانها يرسمان ملامحها.

لا يغفل الأدب الملتزم جمالية الإبداع أن يضيف إلى الجمال وظيفة المهمة. هناك من يجعل المهمة عامة تشمل الخير في صراعه ضدّ الشر، وآخرون يضيّقون المهمة بالدفاع عن إيديولوجيا معينة، أين ترى نفسك؟

ـ وهل يمكن للمرء.. الخروج من جلده؟

الوحدة بمعنى التفرد.. تتكرّر كثيراً.. هل هي حالة إيجابية تركّز عليها، أم سلبيات النقيض تبرزها جماليات الفردية؟

ـ كرّرتها لتبيان فرادة ما تحدّثت عنه، لكنها كلمة غاوية برسميها عبر تشكيل الحروف «وَحدة»، «وِحدة».

تبدو لغة الكاميرا واضحة كثيراً في من فصول الرواية، كاميرا سينمائية تُعنى بكل حركة، فمن الأسبق، طلال الكاتب أم طلال المصوّر؟

ـ لعله الإثم الذي تقصّدته.. لعبتُ على فتنة الكلمة الرائية من باب نيّة تحميل كمين على الفن.

الشخصية الوحيدة والمعمول على بنائها طولاً وعرضاً وعمقاً هي شخصية «أبو سجاد»، أما باقي الشخصيات فتبدو مسطّحة ذات بعد واحد ونظرة واحدة وموقف واحد ثابت، هل هذا يجعل «كمين» أقرب إلى جنس القصة من جنس الرواية؟

ـ اشتغلت على شخصيته بإمعان، لم أرد تشتيت القارئ، لأن مكان الرواية وزمانها متباعدان.

في قصيدة عصام العبد الله الشاعر، «كمين»، والتي عزفت على وتر الرواية نفسه حتى في التفاصيل، هل هذا تكرار توكيدي، أم هو تأكيد على واقعية الكمين في القصيدة وواقعيته في الرواية لإضفاء صدقية التفاصيل في كمين رجال الحاج؟

ـ عصام العبد الله.. غصة روحي وغصة رحيله المفجعة في حنجرة لبنان… لعلك مصيب بكل ما أشرت.. فقد جيّرت قصيدته «كمين» وهي كُتبت أيام العمل الفدائيّ لتكون ركيزة في كميني.

تقوم بنية الرواية على لقطات قصيرة متعددة بعناوين مختلفة كمجموعة قصص قصيرة يربطها خيط حكائي رفيع، تتميز كل لقطة بمشهدية مسرحية وكل مشهد يتميز بكونه ضوءاً كاشفاً سبوت على مرحلة منها، ما يثير في النفس سؤالاً حول عنصر التشويق وحول التلميح إلى الخاتمة نهاية الرواية ، بإشارات بسيطة من دون فضحها، ألا ترى معي أنّ التشويق ومحاولة القارئ استقراء النهاية ضعيف بل ربما مفقود؟

ـ قد اختلف وإياك هنا في بند وأتفق بآخر، في ما يخص العتبات الداخلية وتقطيع المروية إلى أجزاء منفصلة متصلة، كان هذا من باب معرفتي بنفسية قارئ اليوم اللجوج، يمكن لقارئ كمين القراءة على مراحل من دون عياء، لم ألزمه بكسر الصفحة ليعود إليها. وفي ما عنيت والذي يفارق إشارتك للتشويق، التشويق هو ألا أعطي قارئي منذ المطالع مفاتيح روايتي، لهذا تركت بيت سرّها في الخاتمة.

في الإيجاز هي رواية عن حرب تموز، في الأحداث هي رواية حبّ بين شرق وغرب، في التوسع هي سيرة ذاتية لبطلها… هناك وشائج صلة بين كل مما سبق تجعل الحكايات تتمفصل في ما بينها، لكن النهاية تأتي صادمة أكثر مما هي ناتجة عن سيرورة الأحداث، فما هو تبريرك؟

ـ ما من تبرير.. كل الحكاية تقول، كان عليّ ألا أضع يدي على خدّي وأنتظر إلى أن يصير الحدث واقعياً، هذا ما يريدون.. ممنوع أن تدق جرس إنذار الفكرة مبكراً.. أنا دخلت فخّ التابوات المقدّسة.. الصادم في الأمر هو الواقع يا سيدي.

قالوا: لسنا جاهزين لفكرة أن يكون لمقاوم «أخ إسرائيلي». أهلي بالطبع.

ـ قالوا: هذا تطبيل لفكرة تأصيل الحكاية المكتوبة تطبيع . أندادي بالطبع.

ما بين فكرة أهلي الرافضة والمعارضين، طلال يدوّن الآن من مغتربه حالات لشباب عربي تربطه علاقات عاطفية مع «إسرائيليات» يقمن في أوروبا… يا أهلي.. يا أندادي.. امنعوا إن استطعتم ألا يكون لكم بعد سنوات، أولاد من أصلابكم ولدوا من أرحام «إسرائيليات»!

خاضت البطلة أصدق وأحلى المشاعر الإنسانية وأرقاها «الحب»، مع البطل، أليس هذا بحدّ ذاته انتصاراً «إسرائيلياً»؟

ـ أترك تقديره لقارئ «كمين»… عله ينتصر له، أي للحبّ بعينه.

أين الكمين، هل هو كمين الكاتب للقارئ، هل هو العلاقات الإنسانية التي ستؤدي إلى قرابة دم مع الأعداء، أم أنه الكمين العسكري للعدو، هل هو كمين الكتابة، أو كمين الموقف، أين الكمين في «كمين»؟

ـ الكمين في كل ما ذكرته أعلاه.. كمين الحياة!

إياد محسن

الإعلامي الكاتب إياد حسن قدّم ورقة مداخلة أوجز فيها ما تلمّسه في رواية «كمين» تحت معنون أراده هو بالقول، «الروائي» طلال ينصب كميناً محكماً للناقد طلال.

الكاتب نفسه ومن حيث يدري قد أوقع ذاته في شرك أعماله، لينجو على شاطئ الأحاديث من شباكٍ ملغومةٍ ومقتلٍ وشيك.

يلعب طلال مرتضى في مرويته التي تقع في مئة وسبع وثلاثين صفحة على وتر الأحاسيس بأقصى حدود الوجع، وخصوصاً أن صور سرديته ترشق قرّاءها بصلياتٍ بعيدة المدى من بيروت حيث يدور الحدث، لتتم مهمتها بنجاح في قلب ليالي الأنس.

لم يرتضِ طلال أن يحتلّ خيالنا البصري فحسب بل تتسع رقعة «كمينه» لتوقع بحواسنا الستّ. رائحة الزعتر، صخب المدينة وقصص عشاقها تعصف بإيقاع قلوبنا حد النوبة، تروي تلال المهجة القاحلة وتحرك خصور السنابل بعد غفلة.

أحداث الرواية ورغم استنادها على أرضية واقعية فهي بخطوطها العريضة بل وحتى بأحداثها الثانوية تخرج إلى المطلق متجاوزة الزمان والمكان. ليس فقط كون جوهر الصراع الدائر هو بين محتل غاصب وبين مدافع عن أرضه تشرع له شتى الحيل والتدابير، فكذلك التشويق والصراع الدرامي يردد في أسماع الوعي صدى الأعمال الأدبية الكبرى.

طلال الروائي أفلت من سطوة طلال الناقد عندما أباح لحبره العبث في مساحات اللامحدود وبالرغم من سطوته أجاد الأول اللعب بحرفية الثاني على أوتار البدعة وخوض غمار الصعب والمجهول. مراوغات الكاتب أبعدت عنه ـ بمسافات ضوئية ـ خيزرانة توأمه الآسر، مفلتاً هذه المرة من أبي الكمائن ـ ببراعة فأر الورق ـ بعد أن وضع مدير الندوة الكاتب نبيل جديد نقطة النهاية بأسفل آخر مداخلة للحضور بقيت حواراتهم متصلة على موجة الشوق لقراءة المروية.

سلوى الصالح

الإعلامية السورية سلوى الصالح التي كان لحضورها الفجائي من دمشق إلى فيينا، حكاية أخرى، تشبه قصص عشق طلال مرتضى الكاتب للمدن النساء والتي وصفها وقت الترحيب بها، بحضور دمشق وبأنها المرأة التي تجاوز عمرها الحضاري أكثر من ألف.. ألف قرن، تركت ورقة بعدما أمسكت ببعض خيوط الكلام لتنتهي إلى القول: لا أخفي سعادتي بوجودي بينكم في هذه الأجواء الأدبية الراقية.. جئتكم من سورية النازفة.. سورية الموجوعة.. لأقول لكم إن بلدنا بدأ يتعافى.. ليكون لائقا بأبنائه.

أبارك للصديق الكاتب طلال مرتضى روايته التي وضع فيها بعضاً من ذاته وبعضاً من وجدانه.. والتي لم تكن مجرد كمين واحد كما يوحي عنوانها بل تضم مجموعة كمائن تجمعها المفارقات، فمنها ما هو لطيف وناعم ومنها ما هو إشكالي ومثير للجدل ليصنع الدهشة عند القارئ ويكبّله بمتعة السرد.

هنيئاً لكم بهذا «البيت العربي النمسوي» الذي تشرفت بزيارته، إنه واحة ثقافية بامتياز وموئل للإبداع والمبدعين العرب في عاصمة الثقافة والفنون فيينا.

أقول: لا خوف على المبدعين السوريين ما دام لهم في المغترب بيت يجمعهم ويحتضن إبداعهم، فالسوريون يبدعون أينما وجدوا.

تحية للكاتب مرتضى بحضوره اللطيف وتحية مثلها للمحاور الأستاذ نبيل جديد الذي ألم بكل محاور الرواية واستطاع أن يستفز مشاركة الحضور ليقولوا ما عندهم والتحية الأكبر للأستاذ محمد عزام الذي يعمل في الظل ليبقى هذا البيت مفتوحاً لكل محبيه.

محمد رستم

الكاتب محمد رستم من سورية أرسل شهادة مكتوبة عن «كمين»، قرأها أحد الزملاء تحت عنوان، «عابر الحبر صار رائياً».

وجاء فيها: كلنا نعلم أنّ العنونة هي العتبة الأولى والبؤرة التي تتكاثف فيها المحاور الدلاليّة للمنجز ومن هنا جاء العنوان عميقاً، إشكالياً مفتوحاً على مسارب التأويل، ليبقى التساؤل مفتوحاً. هل عنى الكاتب بالكمين، ما نصبته صوفي لربيع حين أوقعته في حبّها وأخفت عنه حقيقتها، أم أنّ الكمين بحدّ ذاته هذا المنجز الذي يترصّد ما تروّجه الحركة الصهيونيّة من تطرف للعرب، حين أوضح المعاملة الإنسانية التي لقيها الأسير الصهيوني من خلال وصفه بالضيف؟

المروية تنضوي تحت عباءة الواقعية التاريخية وتقارب الرواية التسجيليّة أو التوثيقية في بعض أجزائها، ولعل تألق المنجز يتأتّى من تحريك الساكن في أعماقنا وجعلنا في دوامة من الأسئلة اللانهائية حول مضامين المروية، وتظهر قدرة الكاتب وبراعته الفنيّة في تحويل حدث معروف للجميع الكمين ، إلى فاعلية تندغم في بنية الرواية بل ويشكّل الحامل والمحور الأهم فيها. والتي حرص على إقناعنا بواقعيّة أحداثها من خلال، ذكر أسماء الكثير من الأماكن المعروفة في الجنوب. وفي بيروت، كما استخدم اللهجة المحكيّة لدى أهل الجنوب.

بدأ الكاتب روايته من الخاصرة، من الوسط، لا على سنة الخطف خلفاً كما المعتاد.. يبدؤها من الكمين ثم يعود بنا إلى الأحداث الأولى علاقة ربيع بصوفي ، لينتقل إلى الزمن الحاضر بخفة وهو يتلاعب بتيار الزمن بمهارة.

ويبرع في حبك الأحداث ما ولّد جوّاً دراميّاً متنامياً انتهى بالقفلة الصادمة.

تطرح الرواية في مقولاتها أكثر من مؤدى رمزي فهي مفتوحة على باب التأويلات وهذا ما يمنحها نسغ الديمومة. هذا وقد اتكأ الكاتب على تقانة الحداثة الكتابية، ففصل أحداثها على أسلوب اللوحات، وبمعنونات متباينة حتى ليتوهّم القارئ بأنّ خيط السرد قد انقطع وأن لا رابط بين المعنونات، لولا أن الراوي يوحد المخارج ويوضح أنّ أبا سجاد هو ربيع نفسه .

ويطل برأسه من داخل النص تحت لافتة من خارج النص ، وهذا ما يشبه لعبة المسرح داخل المسرح ، فهو يجمع بين حسن العرض على وقع موسيقى اللغة إلى نمو الحدث، وقد يتحول السرد الحكائي إلى غنائية واضحة.

ولأنّ فعل المقاومة هو فعل إيماني، جاءت لغته مغمّسة أحياناً ببعض التناص قابضون على عشقها كمن يقبض على سعير الجمر .

هذا وقد صور ملامح شخصيات الرواية الخارجية كما غاص إلى أعماقها فبدت الشخصيات تتحرك في فضاء المبنى السردي بكل حمولتها، مما منح المروية حيوية…

وفيقة معتوق

لعلّ الروائية اللبنانية وفيقة معتوق المقيمة في فيينا لها رأي آخر، فقد قالت: كما محاكمة الحقيقة للحياة، مليئة بالأسئلة والتحقيقات، كانت الندوة الأدبية حول رواية «كمين». وكما أطلق على زوبعة المخاوف والأحكام التي تنتاب الإنسان العربي تحت مجهر عروبته غير المسلّم بها في حفرة الحروب وقلق الانتصار. كذلك كانت الندوة مليئة بالكمائن عبر أسئلة الكاتب نبيل جديد. لقد أبهجني أن أجد الرجل العربي في نوبة غضب أمام اعترافه لحاجته لكيان المرأة في شخص «صوفي» في الرواية، وأبهجني أن ألتمس حسّ المقاومة للوجود، لقلق زوال الثقافة العربية التي تسكن في حضن الحضارة الأوروبية، من نافذة الخروج إلى حقيقة الحياة بجديتها وسلوكياتها المنظمة التي تخلق هذا الشكل العفوي الدقيق..

الفوضى التي تعيشها شخصيات الروايه «كمين» تعكس مرآة الفوضى العشوائية التي تعيشها شخصيات قادة العالم العربي المؤلهين، والذين إذا لم تعجبهم قراءة الشعب فعلى الشعب أن يحرق كتابه لإرضائهم، كما حصل تماماً في ختام رواية «كمين».

المعاناة التي تعاني منها شخصيات مرتضى في الرواية والتي تعكس تجربته الشخصية في الحياة، تظهر عاتية وعاصفة لأنها تحارب أشباحاً في الظلام، لا تواجهها بشرف وشجاعة، كانت مهمة الرواية إعطاء التسميات لهذا الغموض الذي يخيفنا في العلاقة الفوقية التي يعاني منها الشعب والدولة المتمثلة رمزياً في شخصيات من أرض الواقع. التسميات عادة ما تزيل نصف هيبة العدو وتسقط نصف تأثيره، حتى الأعباء النفسية التي تسبب جروح عاطفيه لا نراها في العين المجردة أيضاً تجسدت في الخاتمة، عندما رفض الأب فكرة وجود ابن له من «إسرائيلية»، ما دفعه لحرق الرواية كونها الشاهد الأوحد على فعلته.

الرواية برأيي ترسل رسالة شخصية إلى «الهوية العربية» تقول فيها: أيها العربي أنت أخي العزيز، وتزاوجي الروحي مع العالم الآخر لا يهدد وجودك ولا يلغيك فلا تجعلني أكره نفسي، لأني اخترت أن ألتجئ إلى حضن مكتمل بوجوده في الحياة وجاهز لاستقبال مخاوفي مثل حضن «صوفي»،

فهذه ليست نزوة كما تظهر لك إنما حاجة لاحترام الذات بإشباعها، فأنا إنسان قبل أن أكون مواطناً، وأنا أولد قبل أن أصبح شقيقاً، وواجبي الأول في الوجود هو حفظ وجودي. أنت يا أخي العربي تجعلني أحرق نفسي لإرضائك، ونقع نحن الاثنين في كمين الخسارة الساكرة بالنصر المزيّف.

رسالة قوية إلى كل عربي أن يحيي عربيته من خلال استعادة إنسانيته، أولاً بعمق فكري وتحديد تسميات الأمور التي تعيقه وتخيفه، فالعربي لا يمكن أن يمثل هوية وهو فاقد ذاته وهويته، والحدود بيننا كعرب هي حدود إعلاء مسؤولياتنا تجاه أنفسنا التي وحدها تحدّد مدى حرّياتنا.

صوت الغضب العالي وصل في الندوة وفي الرواية وكلما كبرت المسافات بيننا كلما علا هذا الصوت وأصبح أكثر عنفاً.

طباعة الرواية، كمين آخر نتعلمه من طلال مرتضى بقول، أنني موجود حتى لو أردت إلغائي.. أنا أحرقت الكتاب في عالمك الافتراضي التي تعيش فيه على الورق لكنني على الواقع طبعته ونشرته.. رسالة من المواطن البسيط إلى الدول العربية بأننا شعوب ترضي حكوماتها بإحراق ذاتها، لكنها على أرض الواقع ما تزال موجودة ومتداولة وهكذا تحيا الشعوب.

إشراقة مصطفى

الدكتورة إشراقة مصطفى، أكاديمية سودانية نمسوية، وممثلة للعرب في «القلم» النمسوي، طرحت على الكاتب عدداً من الأسئلة والتي دارت محاور خطوطها في محيط سقف حرّية الكتابة، والتملّص من الرقيب.. بالإضافة إلى قصص البعد الإنساني الذي يتخفّف من علائق الحياة..

هذا وقد ردّ الكاتب حول ما طرحت الدكتورة إشراقة بإيجاز.. بما معناه، الحرية الكتابية كذبة، من مبدأ أن كلمة حرية بحد ذاتها كذبة، صدّقها الفقراء وتغنوا بها.

سقف حرية الكتابة لو تحرر من تابوات الرقيب الأكبر، بالمطلق سيقع لا محال تحت سلطة رقيب الذات، وكلاهما، شرطة الحكاية مع اختلاف زيّهما الخارجي!

كلمة أخيرة

ككلمة أخيرة أقول بعد نهاية ندوة «كمين» التي كانت غنية في أسئلة كثيرة وعميقة تم إغفالها لضيق المساحة، ومن باب قراءتي للرواية:

في «كمين».. كان لي موعد مع كمائن كثيرة وقعت في شراكها عند أكثر من منعطف، والتي ابتدأها في كمينه الأول، الكمين الذي تم من خلاله أسر جنود النخبة «الإسرائيليين» ليعود بذاكرتنا إلى أحداث حرب تموز، ولكن ما تبعه من كمائن على صعيد التشويق والمباغتة كانت لنا بالمرصاد هي الأجمل بنظري كقارئة.

ربما أتت الرواية تمهيداً لحقيقة بتنا على شفا تجسيدها على أرض الواقع الآن، وأعني بهذا أرض أوروبا، فالكمين يتربص بنا في المكان ذاته الذي وطأناه كلاجئين وليس ببعيد، وبما أن عجلة الوقت تدور، وكما تنبّأ الكاتب، لتعاد فعلة أبي سجاد ثانية على يد كثيرين.

ولكن السؤال الذي أود طرحه الآن وبشكل مباشر: هل حقاً وصل الأمر لدرجة أن تتّحد كريات دمنا كعرب مع «الإسرائيليين» الذين يغتصبون أرضنا؟

هي رسالة «كمين» الواضحة لكل شبابنا اليوم بين قوسين الذين وصلوا أوروبا ، لئلا يقعوا ضحية أهوائهم العابرة، من جرّاء العلاقات العاطفية غير المدروسة، والذين سيجدون أنفسهم وجهاً لوجه أمام حال أبوّة حقيقية لا مجال للتملص منها، طبعاً بعد أن يكون، «اللي ضرب ضرب.. واللي هرب… هرب».

طلال مرتضى، وبعد هزّته العنيفة هذه والتي أيقظت غفلتنا والتي أعدُّها بمثابة جرس إنذار مبكر وجب دقّه في مسامع كلّ منّا وفي هذه اللحظة.

بنائياً، من الجميل أنه نسف عند حدود القفلة كل شيء، ليبدو الأمر كما ذكرت مجرّد تنبيه فقط، وتلك حالة تحسب له حين ترك لي ولكم حرّية تأويل الأمر وهو ما يقال عنه، رمي كرة اللعب في مرمى الخصم المتلقّي .

كاتبة سورية/ فيينا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى