أزمة العقل الجماعي ومحنة التجربة

نضال القادري

خلال تجربة مثيرة معززة بالعلم والمعرفة والتقصي، قال المفكر السوري أنطون سعاده عام 1948 في كتاب المحاضرات العشر المحاضرة السابعة : «نحن، قوة فاعلة في هذا الكون. وإذا كان الله قد خلقنا وأعطانا مواهب فكرية أعطانا عقلاً نعي به ونفكر ونقصد ونعمل، فهو لم يعطنا هذا عبثاً. لم يوجد العقل الإنساني عبثاً، لم يوجد ليتقيّد وينشلّ، بل وجد ليعرف، ليدرك، ليتبصر، ليميّز، ليعيّن الأهداف وليفعل في الوجود. وفي نظرتنا أنه لا شيء مطلقاً يمكن أن يعطل هذه القوة الأساسية وهذه الموهبة الأساسية للإنسان. العقل في الإنسان هو نفسه الشرع الأعلى والشرع الأساسي، هو موهبة الإنسان العليا، هو التمييز في الحياة، فإذا وضعت قواعد تبطل التمييز والإدراك تبطل العقل، فقد تلاشت ميزة الإنسان الأساسية وبطل أن يكون الإنسان إنساناً وانحطّ إلى درجة العجماوات المسيّرة بلا عقل ولا وعي. سنّة الله أو سنّة الطبيعة التي لا يفعل فيها عقل مميّز مدرك هذه هي للجمادات والعجماوات. أما الإنسان فالله قد أعطاه القوة المميّزة المدركة لينظر في شؤونه ويكّيفها على ما يفيد مصالحه ومقاصده الكبرى في الحياة. فليس معقولاً إذاً أن يعطل الله نفسه هذه القوة بشرع أبدي أزلي جامد. لذلك كان العقل الإنساني، كان الإنسان، كان المجتمع الإنساني حراً بإرادة الله، حراً بإرادة المصدر الذي نشأ عنه لكي يسير نحو ما هو الأفضل، ليقرّر بذاته ما هو الأفضل في حياته. ليسير بقوة تمييزه وإدراكه نحو ما هو الأفضل وليقرّر من ذاته وبذاته ما هو المصير الأفضل في حياته».

إنّ أزمة العقل محنة مظلمة تخرج المجموعة عن سياق التنوير وطاقاته. ولا أعرف لماذا تدّعي بلادنا أنها تشكو من غياب البدائل؟ البدائل موجودة بالفعل. موجودة في الأشخاص وفي الأديان وفي الأحزاب وفي الجماعات الضاغطة واللوبيات. لكن استمرار الكسل الفكري هو ما يعطّل دورة العقل الكاملة التي تدُلكَ على محسوس الكمال في الخير والحق والجمال. إنّ الأديان قد ضربت على يد غلاتها، وانحدرت في التكفير والتجمّد وصنمية الأفكار وتمجيد الذات وتأليه التجلي. ومحاججة ناقصة كلّ نقد لا يسلك طريق الخير. ولا يأخذك من نرجسية الطروحات الأولية إلى التفكّر بالمجدي النافع اليافع الفاقع في مكنونه. الشرّ في المحاججة يشبه حياة اللصوص الأوائل الذين ضربت بهم الأمثال للناس لعلهم يتفكّرون، ولكنهم في نهايات جهلهم يتعلّمون أنّ اللصوصية مهنة كاملة. تحتاج اللصوصية لإتقان وعناية في قنص الغنيمة وتوقيت الصيد، والالتهام. كلّ شيء فيه تدبير. السجالات محاججات أيضاً عجّت بها المخيّلة وارتقت إلى درجة الفعل من التفكر. بعض الأيديولوجيات كذلك في التدبير. لقد وصل شخيرها إلى قمم الجبال وبقيت راقدة في أودية الظلم والقهر وأقبية الجلادين. هي تشبه تبدّد الأمل، وبداية الألم الذي لا يُشفيه طبيب أو دواء أو احتواء صديق.

إذا خلا العلم أو الدين من حكمة العقل تصنّم الدين وتحجّر العلم، وبناء على ذلك قال سعاده: «فكل دين يخلو من حكمة يقبلها العقل لا يثبت وقتاً كافياً ليدخل التاريخ. فالعاطفة هي جزء واحد وحالة واحدة من أجزاء وحالات النفس الإنسانية، وكلّ دين أو إيمان علوي أو دنيوي، سواء ابتدأ بالعاطفة أو بالعقل، لا يمكنه ان يقوم بالعاطفة وحدها، ولولا الكتب والمؤلفات العقلية التي لا يحصى عددها في كلّ دين لما ثبت الدين الروحاني على الأيام وغزوات العقل».

إنّ عقل الإنسان متطور ودائم بتطور الإنسان – المجتمع ودوامه، والمعارف الدينية والعلمية خاضعة لدرجة رقي الإنسان – المجتمع الثقافي او تخلّفه. لذلك فإنّ العقل المترقي هو الذي ينهض بالدين، وينهض بالعلم، فيكون بذلك ترقية الحياة المثلى. وليست قومية الحزب السوري القومي الاجتماعي إلا من أجل حياة أجود، وترسيخ عقلية أخلاقية جيّدة وراقية وشريفة. نحن عقليون وعقلانيون قبل أن نكون دينيين وعلمانيين، ولا قيمة لأيّ دين أو علم يخلو من العقل الذي هو هبة عظمى بدونها يستحيل أن يكون الإنسان اجتماعياً صرفاً.

أما التخطيط الذي لا أهداف له، فهو مسلك طريق صالح للبشر والدواب والسيارات وكلّ المتحركات. والفطر الذي ينبت في جنبات الطريق لا مضرّة فيه، ولكن لا يفكرنّ أحدكم أنّ اغتيال شجرة معمّرة على جانب هذا الطريق هو الوصول إلى منصة التتويج. إنّ الأحزاب لا تختلف كثيراً في واقعها المنفصل عن الواقع المرير. هي الأخرى تنوح في دوائرها المغلقة وتترنّح لاهثة إلى الضوء ومنافذ النور. يلزمها الكثير من الأوكسيجين واليقظة، من الروية والتفكر والانتقال إلى حركة العقل. لا تنفع المنشطات. لا تقوى المناعة بغير قلب كبير وعقل كبير يستوعب مكنون الجسد وغذاء الروح التي استفحلت فيها مغذيات الأنا.

الجماعات الضاغطة وإنسانها المتشظي قد كسرته حروب كثيرة. حطّمت آماله الصغرى أنظمة الاستبداد. التخويف خيانة. خيانة لصديق. خيانة لعائلة. خيانة لحزب. خيانة لحبيب. خيانة لوطن. وما أكرهنا، وما أحقرنا، وما أشدّ بلاءنا حين نتقاسم المتعة في تجميل الخيانة. إنّ إنساننا قد سادت في توثبات عقله ثقافة الاستعلاء. أنا أو لا أحد. ولا أحد يجيد صناعة الفرح الجميل، وكذلك الفكرة الشاملة إلا صائغها. لكن المستهلكين كثر، والمتسكعين على مدارات الحقيقة أكثر. يتثوبون ما ملكوا كسوة، ومما بذلوا عزيمة، وما هم عليه طريقاً ربما لا توصل إلى جدوى.

رفقاء التجربة، هلا خرجتم من ألاعيب الحلال والحرام وعذاب القبر، وتكفير أهل العقل والعلم الذي ينفع؟! بعض فضائيات العالم العربي وشرطتها من علماء التخلف والتكفير لا يعترفون بوجود الإنسان قبل الأديان! أما كان العقل قبل الوجود الديني؟ الإنسان كان في البدء، وأديان «المسيحية» و«اليهودية إنْ شئتم» و«المحمدية» لا يتجاوز عمرها ألفي عام. كم كنتُ أتمنى أن أرى شاعراً متديناً يرقص في ليلنا مبشراً بقدوم حبيبته في قصيدة جانحة بالحب والعرق المتصبّب من خلف التفعيلة والترنيمة. يأتي علينا الشاعر مرنماً، جذلاناً، مبللاً بالخبز والنبيذ من دون أن يخاف في سره من عتمة القبر، أو من الملائكة التي تحاصر إيمانه بالتخاريف البالية. كم كنت أتمنى أن أحادث، ولو مرة واحدة، إماماً متمرداً على محفله. يقود منه الرعية برعاية العارف، ولا يخرج إلى إيمانه بميثاق الخائف الملتزم بحظيرة العقل الجماعي. هناك حيث لا تنفع سلوكيات هز الرؤوس. نتجادل ونتقاتل ونتفاعل ونتصارع، أو إنْ شئت نتحامق. لا فرق بيننا إنْ كنا أحراراً في التجربة. دائماً، الأمور بخواتيمها، ولا وصال إلا بالتفاعل. ذلك خير لنا من مماتعة الأنفس في الموافقة على مضمون كلام كهنوتي أو مجمع عليه في السينودوس أو على مستعجل مستهلك تدسّه في صحون أفكارنا فضائيات التخريف الديني وذهنيات التحريم والتبريك وإشاعات الحلال!

ناموس المندوبية السياسية للحزب السوري القومي الاجتماعي في كندا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى