الفن والثقافة بين الإبداع والاستعراض

عبير حمدان

تكثر «التظاهرات» الفنية والأمسيات الشعرية في ظل تزايد الجمعيات والملتقيات الثقافية، ضمن فترة زمنية قياسية، حيث نشطت الحركة الثقافية والفنية على إيقاع مؤثرات التطور التكنولوجي الذي سمح لكل مَن يستخدمه العبور من مرحلة الهواية إلى مرحلة الانتشار، وبالتالي يمكنه أن يمنح نفسه صفة «المحترف» سواء أكان يمتلك هذه المقدرة أم لا.

لا يمكن أن ننكر مدى تأثير التسويق الالكتروني الذي يعتبره البعض منافساً للقطاع الإعلامي على المتلقي، رغم عدم جواز هذه النظرية، إلا أنّه وفي ظل وجود هذا العالم الافتراضي الشاسع يستطيع أي «هاوٍ» التعريف عن إنجازاته الفنية وفق رؤيته الخاصة وقد يضع إلى جانب صورته الشخصية العديد من الألقاب العلمية ضمن الإطار الذي يريده. ومن هنا يفتح خطاً للتواصل مع المنتديات الثقافية والفنية التي تعتمد الصورة العامة مندون أي تدقيق في المعلومات على أرض الواقع.

هذا التقديم ما هو إلا تمهيد لما نشهده من معارض للرسم وأمسيات للشعر على امتداد الوطن، ولكن هل تقدِّم هذه المعارض مادة إبداعية واحترافية أم تبقى في إطار الاستعراض الإعلامي والفايسبوكي، ثم مَن يمنح الشرعية للمنتديات التي أصبحت موجة قادرة على جرف كل ما تيسّر من قواعد لغوية وخطوط فنية. وهل نمتلك حقاً هذا الكم الهائل من المبدعين في المجال الثقافي أم أن عدوى البرامج التلفزيونية التي تُطلق في كل عام مجموعة من الهواة نحو «النجومية» أصابت القطاع الثقافي والفني وأصبح كل مَن يكتب حرفاً مبدعاً برتبة شاعر، وكل مَن يحمل ريشة ويخلط الألوان فناناً تشكيلياً؟!

قد يكون في داخل كل منا فنان أو شاعر وكاتب، ولكن هل تكفي الموهبة إن لم يتمّ تعزيزها بالمعرفة والعلم، وليس بالضرورة أن يقترن العلم بالدراسة الأكاديمية والشهادات العليا، حيث يمكن لأي باحث عن المعرفة العمل على تثقيف نفسه وصقل موهبته بالقراءة والاطلاع على كل ما يرتبط بما يهمّه سواء أكان من الجانب الأدبي أو الفني حيث إن هناك من يرسم بالكلمات وهناك مَن يترجم إبداعه بالريشة واللون.

ما يفاقم المشكلة غياب النقد المجرّد والمبني على أسس علمية وموضوعية، ليحل محله كمٌّ من العرض السردي وفق منطق العلاقات الشخصية والمحسوبيات التي يستعملها معظم «المتسلّقين» على اللغة واللون وسيلة سريعة لتثبيت الصفة التي يريدونها، أضف إلى ذلك كله انتشار ظاهرة الألقاب الفخرية، وعلى رأسها «الدكتوراه» ومن هنا يُصبح كل طامح للشهرة مسلحاً بصورة وخبر يرميه على صفحات التواصل الاجتماعي والمواقع الالكترونية المستحدَثة ولاحقاً يحصد العديد من الألقاب وصولاً إلى مرتبة «الدكتوراه الفخرية».

في مرحلة سابقة كانت الأمسية الشعرية ضمن إطار الدعوة إلى قاعة مغلقة، حيث يأتي كل مَن يبحث عن القصيدة التي تؤلف لحناً ووطناً وحكاية حب، وكل من يحضرها يتقن الإصغاء لأنه يتقصَّد الحضور. اليوم أصبحت الأمسيات الشعرية مقترنة بزحام المقهى ويمكن أن يطغى تجاذب الأحاديث بين «الرواد» على ما يقوله الشاعر، ونقول «الرواد» وليس «الحضور» عمداً وليس سهواً. من ناحية ثانية يرى جزء لا يُستهان به أنه بمجرد أن يكتب سطراً على «الفايسبوك» ويحصد علامات الإعجاب والتعليقات المعجونة بالمجاملات، يمكنه أن يعلن نفسه شاعراً وأديباً وقد يرتقي إلى رتبة «ناقد»، وهنا تكمن الخطورة لناحية الاستسهال في التعاطي مع اللغة وأصولها وما يتطلّبه الأمر من وجود خلفية ثقافية فعلية لدى كل من يسعى لكتابة نص شعري أو أدبي أو حتى نثري أو روائي. ربما علينا البحث في الأسباب التي حثت الكثيرين على الاستخفاف باللغة وقواعدها سواء مَن يرصف الحروف كيفما اتفق أو من يتلقاها دون إدراك أو وعي وتعمق.

لعل ما تشهده الساحة الثقافية من زحمة يتطلب منا التروي وقراءة المشهد على قاعدة الوعي والمعرفة بعيداً عن الترويج غير المدروس والعشوائي للكثير من الأسماء الطارئة التي يقوم «الفايسبوك» بتخريجهم من «معهده الافتراضي» إلى العلن ويساهم جزء كبير من المتتبعين لهم في تعزيز شهرتهم سواء بهيئة ملتقى أو منتدى ثقافي وفني يضمّ أفراداً يبرعون بالتسويق والترويج على حساب اللغة والفن.

مما تقدّم نحن لا نسعى إلى إلغاء أحد أو نكران موهبة أي أحد، ولكن يحق لنا من موقعنا الذي يُحتّم علينا صون لغتنا وفنوننا وتاريخنا وتراثنا أن نفتح باب النقاش حول جدلية الفن والثقافة بين الإبداع والاستعراض.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى