أردوغان يستثمر في سورية!

د.وفيق إبراهيم

يهدّد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأميركيين بعزمه على «تحرير أراضٍ سورية» جديدة لإعادة الاستقرار اليها، حسب زعمه.

فعن أي أراضٍ يتكلم؟ وما هي مراميه؟

المعتقد أنه يعني منطقة إدلب التي تحتل جبهة النصرة معظم أراضيها الى جانب عشرات التنظيمات المتطرفة والتركمانية وما يسمى الجيش الحر. هؤلاء يخضعون بإقرار عالمي للمخابرات التركية التي رعت كافة أمورهم من الاراضي التركية الى عمق اراضي سورية وضمنت انسحابهم من مناطقها الجنوبية وبواديها الى منطقة إدلب.

هنا في هذه المنطقة بنى الترك نفوذاً واسعاً لهم رفدوه باحتلال جيشهم نحو ثمانية آلاف كيلومتر مربع اضافية من الأراضي السورية المحاذية مباشرة لحدودها مع تركيا متذرعين بضرورات منع الإرهاب من التسلل الى بلادهم ومكافحة المشروع الكردي الذي سبق واتهموه بمحاولة استحداث كيان سياسي جديد في مناطق انتشار الكرد في سورية وتركيا والعراق.

لجهة إدلب فإن تحويل القسم الأكبر من فروع جبهة النصرة التابعة لمنظمة القاعدة الى تيارات معتدلة تُنقذها مخابرات أنقرة بسرعة لتمنع تصفيتها من قبل الدولة السورية وحليفتها روسيا وتحصر العداوة مع كميات قليلة من تيارات هيئة تحرير الشام النصرة سابقاً الذين يرفضون إلغاء كيانهم الإرهابي واستبداله ولو شكلاً بأسماء معتدلة. أنقرة تسعى في هذه الأيام الى حصر هؤلاء المتمردين على مخابراتهم في أمكنة ضيقة من إدلب حيث يُنتظر ان يدخل إليهم الجيش التركي حسب مشروع اردوغان للقضاء عليهم. وهذا يتطلّب أمرين: الاول اتفاق مع الروس والإيرانيين في سوتشي، والثاني قبول الدولة السورية بهذا الأمر، لكن هذا الموضوع لن يصل الى خواتيمه الأردوغانية، فلا موسكو وافقت على العرض التركي ولا الدولة السورية بصدد الإذعان لمثل هذه المشاريع التي لن تفعل الا زيادة النفوذ التركي في سورية.

بالإضافة الى أن كل التسويات التي عقدتها دمشق في كل معاركها في كافة البلاد لم تقبل ولو مرة واحدة بإدخال قوات أجنبية لضمان الأمن في اي زاوية من انحاء البلاد. كان الجيش السوري هو الوسيلة الوحيدة للحرب، هجومأً ودفاعأً وتأميناً للاستقرار وضامناً لسلامة الوطن ووحدته، فكيف تُذعن اليوم لعروض تفوح منها روائح الشبهة والتحايل؟

فماذا يقصد الرئيس التركي إذاً برغبته في «تحرير» أراضٍ سورية جديدة من الإرهاب؟ إذا كان موضوع الحل التركي موضوعاً لإدلب فهو مرفوض من قبل الدولة السورية وبالتالي روسيا؟

لا بد من قراءة المشهد السياسي الحالي التي تجد تركيا نفسها فيه بوضع صعب…

أنقرة على عداء كامل مع سورية والعراق لرعايتها الإرهاب فيهما منذ 2012، ومتناحرة مع قبرص التي تحتل ثلثها منذ 45 عاماً ولديها مشاكلها مع أرمينيا ومصر والسعودية والاتحاد الأوروبي.

وكانت تراهن على السياسة الأميركية بسبب انتمائها للحلف الاطلسي فَتَتدلّلُ للحاجة الأميركية اليها التاريخية وهي الواقعة في مواجهة روسيا عند الطرف الآخر للبحر الاسود والمسيطرة على خطوط المواصلات البحرية الروسية في بحار مرمرة وإيجه وصولاً الى المتوسط.

كانت أنقرة تلعب هذا الدور في مرحلة الاتحاد السوفياتي وشكلت السد الأطلسي الذي انتصب في مواجهة السوفيات فكان على هؤلاء إما أن يقبلوا بالرقابة التركية وبالتالي الاطلسية على اسطولهم البحري من البحر الأسود مروراً بسلسلة البحار التركية أو أن يجتازوا نصف العالم انطلاقاً من بحر البلطيق حتى يصلوا الى المتوسط عند شواطئ حليفتهم التاريخية سورية وصولاً الى البحر الاحمر ومصر من خلال قناة السويس..

لذلك فإن انقرة اكتسبت أهمية تاريخية لدى الحلف الغربي العام من خلال هذه الأهمية الجغرافية.

بيد أن انهيار الاتحاد السوفياتي في 1989 أدى الى تراجع الأهمية التركية عند الأميركيين.

واذا كان هذا الانهيار لم يكن عسكرياً، فيكفي أنه أنتج انهياراً ايديولوجياً على مستوى السقوط الكبير للفكر الشيوعي الذي كان يطمح للانتشار العالمي. وهذا ما كان يثير ذعر الغرب وليس السلاح السوفياتي فقط.

لعل هذه الأسباب التي جعلت الغرب الأوروبي والأميركي لا يولي أنقرة مستوى الاهتمام القديم نفسه، فروسيا متساوية مع الغرب في السلاح وقد تفوقه في بعض النواحي، لكنها لم تعد تمتلك سلاحاً فكرياً قادراً على توحيد العالم كحال الشيوعية. وهذا يعني سقوط المشروع الاممي، الأمر الذي أدى الى تراجع الاهمية التركية التي كانت مولجة بردع التقدم السوفياتي نحو الشرق الأوسط.

كان لا بد من هذه القراءة للكشف عن أسباب الصراع الأميركي التركي، ولماذا لا تخاف واشنطن من انتقال انقرة الى الضفة الروسية؟

وهذه هي أيضاً الاسباب التي جعلت الجيوبولتيك الأميركي يفضل الاعتماد على المشروع الكردي للتأثير على البلدان التي يتحرّك فيها مُستغلاً انتشار الاكراد في إيران والعراق وسورية وتركيا.

إن استمرار أميركا بتوفير غطاء للكرد في شرق الفرات السوري كطريقة لمحافظة واشنطن على دورها في ازمات المنطقة تثير ذعراً تركياً كبيراً ورعباً حقيقياً على الوحدة الجغرافية لتركيا.

وضمن هذا الإطار يجب فهم التهديد الذي أطلقه اردوغان في ردة فعل على العقوبات الاقتصادية التي وقعتها واشنطن على أنقرة في عقاب على تمردها على النفوذ الأميركي واسترسالها في عقد تحالفات مع روسيا. هذا بالإضافة الى رفضها تطبيق العقوبات الاقتصادية الأميركية على إيران، فأنقرة تستورد نفطاً وغازاً وسلعاً من طهران وتوردها ما يعادلها وهما بلدان حدوديان متجاوران لا يستطيعان فك الروابط بينهما من دون اختلاق حرب فعلية، لا تأبه لها العنجهية الأميركية التي تريد تطبيق أوامرها من دون أي مساءلة.

وكان أن صدرت عقوبات قاسية على تركيا تجعل من الصعب فهم تهديدات أردوغان باحتلال اراضٍ سورية جديدة، إلا حيث يستطيع إيذاء الأميركيين من جهة ورفع الخطر الجاثم فوق تركيا من جهة ثانية.

وباعتبار ان انقرة هي المسيطر الفعلي الحالي على ادلب فمن المرجح أن يتقدم الجيش التركي نحو مناطق كردية شمال سورية.

فيكسب عصفورين بحجر واحد: أي يسيطر على اراضٍ سورية جديدة رادعاً الكرد ومتسبباً بإزعاج أوسع لأصحاب الناتو الأميركيين الذين قد يجدون أنفسهم مضطرين للعودة الى «الخيار التركي» للتأثير على مجريات الأزمة السورية.

إلا أن دون هذه الألعاب الأردوغانية عوائق متنوعة تحتل رأس لائحتها الدولة السورية التي فتحت مفاوضات متواصلة مع أكراد شرق الفرات والتي تعطي حالياً أولوية لاستعادة إدلب الى حضن دولتها.

وهذا يستتبع تأييداً روسياً وإيرانياً لمنطق دمشق.

وقد لا تقبل واشنطن نفسها بحركات أردوغان وأحلامه.

يتبين بالاستنتاج أن سورية لن تسكت على محاولات أردوغان الاستثمار في أراضيها بإطلاق ذرائع لا علاقة لها بها.

فالخلاف التركي الأميركي هو صراع بين بلدين أجنبيين على أراضٍ سورية ليست لهما ولتنفيذ مشاريع تأكد فشلها بعد سقوط الإرهاب.

متى تعود إدلب؟

هذا ما يُقررُ موعده الجيش السوري وحلفاؤه، العازمون على تحرير كامل سورية حتى حدودها الدولية مع تركيا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى