عالم يحكمه «الهَبَلْ»…!

د. رائد المصري

بهدوء… باتت تغريدة تويترية يخرج بها الرئيس الأميركي دونالد ترامب كافية لقلب العالم وقضِّ مضاجع الشركات الاقتصادية والمالية والبورصات والأسواق وانهيار العملات، حيث تنبري الأقلام التحليلية ويتبارى على الشاشات محلِّلو الاقتصاد والسياسة في تقييم المراحل والتنبُّؤ بما سيحكم العالم.

هي مجرَّد تغريدة لم ترتقِ بعد الى حيِّز التنفيذ العملي لكونه من الصعوبة بمكان العمل على تبديل الأنماط الاقتصادية والتحالفات السياسية العالمية وبلورة نظام دولي أو إقليمي من خلال تصريح أو رأي افتراضي من هنا أو هناك، فماذا نُسمِّي كلّ ذلك؟ هل هو الهَبَل والهَوَس أو الفوبيا أم جنون السياسة وفنون معتنقيها؟

طبعاً التصريحات والتصريحات المضادة والمتضاربة التي تتوالى حول العالم وتكشِف كلَّ يوم عن جديد وموقف مغاير في تطورات متسارعة. ربَّما يضيع معها وضوح الرؤية التحليلية لكونه ما من مستقرٍّ ثابت يشهده عالم السياسة اليوم بسبب الانفتاح وتوارد المواقف وسرعة تنقلها وكيفية التفاعل معها، لكن باستطاعتنا التأكيد بأنَّ كلَّ ذلك ما هو إلاَّ جزء من حراك سياسي عالمي يريد تثبيت وتنظيم ووضع أوزاره، ويريد حطَّ رحاله بعد التَّعب من الحروب والاصطفافات والتحالفات وبعدما أُنهكت الاقتصادات العالمية والبنوك الدولية والماكينات العسكرية التي لم تَعُد تجد طائلاً من السير على هذا المنوال المخيف، الذي حصد ملايين البشر ودمَّر حضارات الشعوب وضرب نسيجها الاجتماعي وفكَّك تنظيمها المجتمعي وجعله مشوَّهاً الى أبعد الحدود.

جنون العالم أو الهَبَل والسطحية التي تتحكَّم بأمزجة الناس وعقولها التي تعوَّدت على ثوابت دائمة واستقرار في السياسات الدولية التي رسمت معالمها وعمَّمته الولايات المتحدة الأميركية وجعلته قاعدة واجبة الخضوع والطاعة خصوصاً على المستوى الاقتصادي والمالي وفي أسواق العالم، إذ أنَّ مجرَّد قرار أحادي للرئيس ترامب بفرض عقوبات أميركية أحادية ومن جانب واحد على تركيا مثلاً جعل عملتها تتهاوى الى أدنى مستوياتها، وكأنَّ كلّ هذا الاقتصاد التركي الكبير والتنمية المتسارعة والتطوّر الصناعي، وهي العضو في مجموعة العشرين، هو مجرَّد طيف ووهم وليس له أيّ سند أو دعم أو كأنه قائم على النمط الريعي الدائم. وهذا ما يجب أن يُثير علامات استفهام عدة حول اقتصادات هذه الدول وسُبُل مواجهة أيِّ طارئ أو عقوبات فجائية من دون أن تفقد السيطرة والسيولة والطلب المتزايد على الدولار، بسبب هبوط قيمة العملة المحلية.

السطحية أو الخفَّة في التعامل مع العقوبات الأميركية على تركيا قوبلت كذلك بكثير من التلبُّك والتخبُّط وفاجأ العالم في أداء اقتصاد يُعَدّ من الأوائل في العالم، ولولا التكاتف الداخلي وضخِّ السيولة القَطَرية واستمرار التعامل بالليرة التركية لانهارت دولة بحجم تركيا جراء تغريدة لموقف الرئيس الأميركي بفرض عقوبات أحادية من جانب واحد على تركيا. وهذا إنْ دلَّنا على شيء فعلى الحاجة الملحَّة التي بات على الاقتصاد العالمي انتهاجها بمنطق بعيد عن الأنماط الإنتاجية المنفوخة الحجم والتي لا ترتكز الى قاعدة اقتصادية حقيقية، والى التخفيف من الاقتصادات المضاربة في البورصات والأسهم، والتي تصيبها في كلِّ مرة عدوى الإفلاسات ونقص السيولة ودمار الدول وانهياراتها لربطها مجدّداً بمؤسسات البنك الدولي والسيطرة على قراراتها السيادية عبر الإخضاع..

إذن هو كذلك جزء من حراك عالمي لتثبيت قواعده الاقتصادية التي لا زالت أميركا تملك معظم أوراقه بعد أن فقدت أوراقها العسكرية في غير مكان. وهو ما يتطلَّب هدوءاً وتبصُّراً ونسج اقتصادات وتحالفات متينة على غرار ما جرى مع إيران رغم العقوبات القاسية عليها طيلة أربعة قرون. فهي امتصَّت الموجة الأولى منها وانتقلت الى الهجوم أو ما يُسمَّى بالدفاع السلبي وهو ما أعطاها الأفضلية في الحفاظ ولو نسبياً على عملاتها وتنويع مروحة تعاملاتها الاقتصادية. وهذا يتطلب أخيراً العمل على إعادة صياغة علاقات جيدة مع دول الجوار والكفّ عن العبث بأمن واستقرار شعوب المنطقة. وهو ما عملت عكسه تركيا وتتلقَّى اليوم الصدمات التي ستُحجِّم دورها في الإقليم لعشرين سنة مقبلة…

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى