الثابِت والمتحوّل في مفهوم الهوية

نظام مارديني

يستمرّ الحديث عن الهوية وسط أوجه كثيرة من الاختلاف والتناقض الفكري والسياسي، خاصة في عالمنا العربي الممزق قطرياً وطائفياً واجتماعياً وإثنياً وعشائرياً من ناحية، والممزق أيضاً بين تيارات الحاضر والماضي وضبابية المستقبل من ناحية ثانية، فالكثير من مجتمعاتنا العربية لا تزال تعيش حالة من «الشيزوفرانيا» المعرفية والسياسية بحكم وجودها الشكلي في القرن الحادي والعشرين وانتمائها الفعلي والجوهري إلى القرن الخامس عشر، وما ينتجه ذلك من تشتّت في مفهوم الهوية ذاته، إذ نراه مفهوماً غامضاً في أوساط الغالبية الساحقة في العالم العربي.

تسرُّب مفهوم الهوية إلى الفكر العربي في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع العشرين، إذ لم نكن نقع عليه ضمن المصطلحات المترجمة في تلك الفترة مثل: الحرية، الأمة، القومية، المساواة، الوطن، الوطنية، الثورة…إلخ. ولعل أول مَن استخدم مصطلح الهوية وكرّسه في بعده القومي هو المفكّر النهضوي أنطون سعاده من خلال طرحه سؤاله الفلسفي الكبير «من نحن؟» وإجابته عن هذا السؤال بـ «أننا سوريون والسوريون أمّة تامة». وهذا لا يعني غياب المصطلح عن فكر العديد من النهضويين، ولعلنا نذكر هنا أن سلامة موسى كان استخدم مصطلح الهوية نقلاً عن إبراهيم اليازجي.

يعتبر مفهوم الهوية من المفاهيم صعبة التحديد، بكونها مفهوماً متحرّكاً وفي حالة بناء دائمة من خلال الوضعيات التي يكون فيها الأفراد والجماعات ونوعية العلاقات الموجودة بينها وفي تلك الوضعيات كلها وما يحدث داخلها من علاقات، إذ يقوم شعور الانتماء بوظيفة مهمّة في تأكيد الهوية ورسم حدودها. ويشير مفهوم الهوية إلى ما يكون به الشيء هو هو، أي لناحية تشخصه وتحققه في ذاته وتمييزه عن سواه، فهو وعاء الضمير الجمعي لأي مجتمع أو تكتّل بشري، ومحتوى لهذا الضمير في الآن عينه، بما يشمله من قيم ومقوّمات تكيّف وعي الجماعة وإرادتها في الوجود والحياة داخل نطاق الحفاظ على كيانها.

مفهوم الهوية من المفاهيم التي أخذت حيزاً كبيراً من تفكير الباحثين وازداد هذا الاهتمام في السنوات الأخيرة مع ظهور عصر الحداثة، إذ غدت الهوية هدفاً رئيسياً وبات ينظر إليها كأداة يتمّ التحصن بها في أوضاع التعليمات والاستهدافات. وتبرز الانتماءات القبلية والطائفية والدينية والقومية في هذه الحال تقود إلى الانكفاء على الذات ورفض الاندماج والتفاعل وعدم الإقرار بالاختلاف والتنوّع، ومن ثم تكون الفرصة لمواجهة الآخر والدخول في صراعات للحفاظ على الهوية.

الهوية جسر يعبر من خلاله الفرد إلى بيئته الاجتماعية والثقافية، فهي إحساس بالانتماء والتعلق بمجموعة، ولذلك فإن القدرة على إثبات الهوية ترتبط بالوضعية التي تحتلها الجماعة في المنظومة الاجتماعية ونسق العلاقات فيها. وتطرح مقابل ذلك مقاربة سوسيولوجية ترى أن الهوية تتغذّى بالتاريخ وتشكل استجابة مرنة تتحوّل مع تحوّل الأوضاع الاجتماعية والتاريخية، فتمتح منها من دون أن تشكل ردّاً طبيعياً، وبذلك تكون هوية نسبية تتغير مع حركة التاريخ وانعطافاته.

لكن يبدو أن تغيّر الهويات ينبغي أن يخضع لقانون التوازن بين الثوابت المميزة للهوية والعناصر القابلة للتحوّل، وإلا كانت الهوية عرضة للخطر والتدمير، تتضمّن مكّونات ثابتة وأخرى قابلة للتغيير.

لكن السؤال المطروح راهناً علينا وعلى دول الهلال الخصيب والعالم العربي كافة: هل أخفق المشروع القومي النهضوي الحديث الذي أطلقه سعاده في المنطقة مطلع القرن العشرين؟ وهل ما زلنا ضحايا «المسألة الشرقية» التي كانت من أسس تعامل الدول العظمى مع الإمبراطورية العثمانيّة، عن طريق التدخّل في شؤونها الداخليّة بحجّة حماية حقوق الأقليّات، والتلاعب بمصائر الأقليّات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية؟

صحيح أن ثمة مَنْ دعا الى ضرورة تحرير الهوية من الماضي وربطها بالحداثة وأفقها التنويري والديمقراطي، فالحداثة تعني ارتباطنا بالعصر واندماجنا في قضاياه، والحداثة تحمل شكل الوطن المتجاوز للهويات التقليدية التي تمزّق وحدته الى هويات صغرى متناثرة. وحدها الحداثة هي موضع للوطن، فالحداثة هي عصر للوطن بعد انحسار جميع تقاليد الهوية، ولذلك فإن المعنى الوحيد اليوم للهوية هو الحضور في العصر بوصفه نمطاً جديداً أو متبقياً من الوطن.

لا ريب في ان الدولة المدنية الحديثة بمختلف مؤسساتها الوطنية تمتلك القدرة على تفكيك منظومة الولاءات الجزئية والارتقاء بها إلى أفق أوسع من غير أن تلغيها بالقسر والإكراه، فالمجتمع الذي تكاملت شخصيته هويته عبر التاريخ بالتطور هو وحدة ثقافية اقتصادية اجتماعية، أما الوحدة السياسية فهي تحصيل حاصل. وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع المتخلف اقتصادياً، أي المجتمع الذي ليست فيه بؤر إنتاج كبيرة جامعة للناس. هو حكماً مجتمع مفكك اجتماعياً. بمعنى أن ثمة عوامل لتطور المجتمع وتكوين هويته القومية وهي: العامل الثقافي الثقافة = علوم وثوابت إنتاج + العامل الاقتصادي اقتصاد متطور + العامل الاجتماعي علاقات اجتماعية متطورة + العامل السياسي نظام سياسي متطوّر .

لا بدّ للدولة من أن تضع نصب أعينها كل ما يبعث التوازن والاستقرار في المجتمع قاعدةً لتطوير الإنتاج وخلق حالة من النمو والتكامل بين القطاعات الاقتصادية المختلفة، ما ينعكس على زيادة الإنتاج الاجتماعي وانتعاش المواطنة السليمة لتكون الأساس المتين لصنع المنجز الحضاري. وهنا تكون العلاقات الإنتاجية جوهر الحركة الاجتماعية المجسدة لهوية الجماعة الوطنية.

غير أن الهُوية تلقي بنا هنا في إشكالية مفهوم العلاقة بين كل من الثقافة والهُوية، وللتمكّن من تحليل وتحديد كلٍ منهما والعلاقة والحدود المرسومة بينهما، يجب أن نعرف أين تتبدّى ثوابت أزمة الهويّة القومية ومتحوّلاتها وأزمة صراعها بين الثنائيات الآتية: الأنا والآخر، الأصالة والمعاصرة، التراث والحداثة…

لذا، فإن تكاثر «الأنا الثقافي» وانعزال أنماطه وتحسّس معطياته وانشطار عناصره على خلفية المشهد السياسي المعاصر لم يكن في درس التاريخ الاجتماعي لدول الهلال الخصيب وليد انحراف نزاعاته الإثنية أو نكوص انتماءاته الطائفية مثلما يحاول البعض الإيحاء بذلك-، بقدر ما هو تعبير قاسٍ عن تداعيات الطغيان السياسي والحرمان الاقتصادي والاضطهاد الاجتماعي والكبت النفسي والقمع الفكري، التي فرضت عليه ومورس ضده على مدى أجيال، بحيث ارتدّ الوضع بالمجتمع إلى حالته الطبيعية/ البدائية التي أفاض في رسم مساوئها وتعداد مثالبها فيلسوف السياسة الإنكليزي توماس هوبز، بينما المراد هو تحقيق مطلب وحدة الحياة داخل المجتمع القومي، وإنضاج الشروط الحضارية لبلوغ المجتمع المدني المتطوّر.

في الأخير يمكن أن نؤكد ما قاله الباحث محمد عابد الجابري العولمة والهوية الثقافية عشر أطروحات 15/04/2010 فالهوية الثقافية لا تكتمل ولا تبرز خصوصيتها الحضارية، ولا تغدو قادرة على نشدان العالمية، على الأخذ والعطاء، إلا إذا تجسّدت مرجعيتها في كيان مشخّص تتطابق فيه ثلاثة عناصر: الوطن والأمة والدولة.

الوطن: بوصفه الأرض أو الجغرافية.

الأمة: بوصفها النسب الروحي.

الدولة: بوصفها التجسيد القانوني لوحدة الوطن والأمة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى