الانتصار الممنوع من الصَّرف

د. رائد المصري

بهدوء… المترقِّب مسار وتطوّرات الأحداث العسكرية والميدانية والسياسية في المنطقة والتي خرجت من أسوأ كابوس كان ينتظرها وأخطرها كان لبنان في مشروع تدميري بدأت ملامحه بمحاولات زعزعة الاستقرار عبر الخلايا الإرهابية التي كشفها جهاز فرع المعلومات ورافقها بعملية استدعاء لصحافيين محسوبين على المقاومة وسورية للتحقيق معهم بحجَّة الإساءة للسعودية ولدورها، وتطرُّق الرئيس الحريري للتصويب على سورية مجدَّداً والرهان على قرارات المحكمة الدولية للتأثير والتخويف وقلب الطاولة في محاولة جديدة ومكرّرة ومكشوفة، وخلق فتنة كبرى تُعيد خلط الأوراق بعد سبع سنين من الحرب التدميرية على سورية ومحاولة سوْق العراق كذلك ليقع في فخِّ التآمر والاقتتال والتصفية الطائفية والمذهبية ليُشكِّل حالة تفكيكية تتجاذبها القوى الإقليمية، ويكون فاصلاً وسداً منيعاً لعزل إيران ومنع تواصلها مع المقاومة في لبنان وفلسطين وسورية. فكان الرهان في لبنان ومنه أراد المشروع الأميركي حماية «إسرائيل»، بعد ان انتهى التوظيف الإرهابي في غير مصلحتها، بل باتت قوى المقاومة أقوى وأقرب ممَّا كانت قبل الفورات الداعشية والحركات الإرهابية التي غذَّتها «إسرائيل» وبعض الدول الإقليمية، ليكون الانشغال والاستنزاف كاملاً تمهيداً لتصفية القضية الفلسطينية والتي كان العنوان الأول فيها إعلان القدس عاصمة أبدية للكيان الصهيوني.

فقد كان المأمول في لبنان إنتاج وإفراز قوى سياسية تتماهى مع المشروع الأميركي القديم المتجدِّد لحصار المقاومة وتكبيل قدرتها الردعية بوجه «إسرائيل»، وذلك بالطلب الأميركي الى مجلس الأمن إصدار قرار تحت الفصل السابع بطلب من الحكومة اللبنانية بنزع سلاح الميليشيات المتمثِّلة بقوة المقاومة، وساعتها لن تكون أي دولة خارج معادلة الوقوف مع القرار الأممي على المستوى العربي والإسلامي. وهذا توازياً مع حرب «إسرائيلية» يشنُّها الكيان على الجنوب السوري بعد فشل قوى الإرهاب والتكفير في مهماتها لمنع تمدُّد قوى المقاومة وإقامة حزام أمني بشريط أربعين كيلومتراً والطلب الى قوات دولية تحفظ أمن وحدود الكيان من دون أن يكون للمقاومة أيّ قدرة على الردِّ من جنوب لبنان أو تشكيل أي تهديد لمستوطنات الشمال والجليل الأعلى. وهكذا يتمُّ ضمان أمن الإسرائيلي ويبقى الاستنزاف سارياً لمحور المقاومة عبر منع السلطة السيادية السورية من بسط يدها على كامل أراضيها.

لكن السيناريو الأميركي والخليجي الذي تمَّ الرهان عليه لم يتحقَّق، حيث فازت قوى 8 آذار الداعمة للمقاومة بأغلبية المقاعد البرلمانية، وهو ما كان قد دعا اليه السيد حسن نصرالله بضرورة حماية المقاومة وتحصينها بمجلس نيابي كي لا يتمَّ استهدافها على غرار ما بعد عام 2005 الى اليوم، وبالتالي فشل مشروع الاستهداف الإسرائيلي بحربه على الجنوب السوري وخشيته من ردٍّ إذا أعلنها حرباً على سورية او محور المقاومة، جعل الأميركي يبدِّل أحصنته من دون أن يبدِّل استراتيجيته، فانتقل المنخفض الجوي العسكري الأميركي من سماء لبنان وسورية الى أجواء العراق وإيران عبر الاستهداف والمحاصرة الاقتصادية ومنع قيام حكومة عراقية متحالفة مع إيران وتستمدُّ زخم قوتها من الانتصارات العسكرية المتحققة، لذلك يشهد العراق حالة من الشدِّ والجذب والاصطفافات داخل التكتُّلات البرلمانية، توازياً كذلك مع تفعيل العقوبات الأميركية بقوة أكبر على إيران في مطلع تشرين المقبل، حيث سيكون النفط هو محطّ الأنظار وقدرة إيران على بيع منتجاتها النفطية والغازية بعد أن تدخل هذه المواد دائرة العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة، ويظهر معها حجم تأثير هذه العقوبات بخنق إيران، وما إذا كان لها تأثير مباشر على الداخل الإيراني وإحداث اهتزازات في صفوف الشعب الإيراني، ونسبة معينة من عدم الاستقرار السياسي والأمني، في ظلِّ الحديث عن عدم رغبة تركيا بالمساعدة على فرض العقوبات الأميركية على إيران وشنِّ الأولى عقوبات عليها وإسقاط عملتها بغية تطويعها وجرِّها إلى الحضن الأميركي مجدّداً. وكذلك موقف الدولة العظمى كالهند وخلفها الصين، لكون النفط الإيراني سيُباع بالدرجة الأولى لهذه الدول من خارج قيود دائرة العقوبات الأميركية.

اليوم النظام العالمي وبنيته الاقتصادية قيد التشكُّل وفي ذروة الحرب والعضّ على الأصابع لتتوضّح صورة المنتصر، فلا زالت المبادرة الروسية حول عودة النازحين السوريين إلى وطنهم بطيئة وتلزمها إمكانات مالية ولوجستية كبيرة هي غير مؤمنة او متوفّرة إلا لدى دول الخليج وأوروبا، والحجَّة التي ساقها لافروف للأوروبيين بأنَّ عليهم المساعدة لعودة النازحين السوريين وإلا سوف يتوجَّهون نحو دول الاتحاد الاوروبي يبدو أنها لم تحمِّسهم كثيراً، ودول الخليج ومعها السعودية لن تقبل بهذه المساعدة من دون شروط أقلَّها الانفكاك السوري عن إيران وعن التحالف معها. وهذا أمر غير وارد في الأجندة السياسية السورية وأدبياتها ولا حتى في الأجندة الروسية..

من اليوم وحتى العام المقبل سيحاول الأميركي وخلفه السعودي الاستفادة والضغط بأكبر قدر ممكن على الرئيس الحريري لمنع تشكيل حكومة في لبنان قوية بأغلبية تؤيِّد وتساند وتحمي المقاومة وتؤطِّر العلاقة مع سورية وتحسم موقفها، حيث بدأت أولى حياكتها بعودة وفود من النازحين السوريين بالتنسيق مع الموفد اللبناني المعني بهذا الملف. ولا تريد كذلك الحسم في تشكيل حكومة في العراق تكون ميَّالة إلى علاقات متينة مع إيران، بانتظار ما ستُسفر عنها العقوبات النفطية وقدرة بعض الدول الإقليمية من التفلُّت من هذه العقوبات. وهو بطبيعة الحال سيحدّد معالم النظام الدولي والنظام الإقليمي بشكل أوضح وساعتها تتوضّح خريطة التحالفات الجديدة في المنطقة وأي دور للكيان الصهيوني وما هي خطوط التماس التي ستُرسم معه وتحت أيّ عنوان وجبهة ستتوحَّد قوى الإقليم… خصوصاً أنّ مؤسسات الدولة العميقة في الولايات المتحدة لا زالت تدفع باتجاه محاصرة الرئيس ترامب من الداخل ليهرب الى مغامرات عسكرية خارجية هي أبعد وأعقد من تحقيق أيّ منجز ولتضعه بين فكّي كماشة إما العزل بسبب الفضائح التي تظهَّرت أو ضياع ما تبقى من منجزات يمكن أن يبني عليها سياسته الجديدة التي تعطيه ولاية ثانية لأربع سنوات… لذلك الترقُّب سيكون سيد الموقف لانتصار متقدّم عسكرياً، لكنه ممنوع من الصرف سياسياً واقتصادياً…

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى