ناجي العلي.. الحاضر بحضور التحرير والعودة والحرية وقاتلُه هم الخانعون كافة

هاني الحلبي

31 عاماً بعد ناجي العلي الجسد، وما زال ناجي العلي الثورة ثورة حتى النصر، وسيبقى ملهماً إلى ما بعد بعد النصر.

لم يتمكن تدمير بيته ولا احتلالُ قريته الشجرة في منطقة طبريا في فلسطين المحتلة المولود فيها العام 1938، ولا تهجيره منها العام 1948، ولا السجون المتلاحقة في كيان الاحتلال وفي دول عربية، منها لبنان، من إيقاف القناص بالكاريكاتير عن ممارسة رسالته القومية وهي الثورة الشاملة لتحرير فلسطين. فبقيت رسومه على جدران الزنزانة رسالة حرية وعصافير عزيمة.

فنه وشخصياته

كانت انطلاقته الأولى في مدارس مخيمات الشتات، حتى بدأ يبلور أسلوباً فنياً يقاتل به في صفوف ثورة هي الأبهى والأقسى والأطول في العصر الحديث. وكان الأديب الروائي الفلسطيني غسان كنفاني اول من شاهد أعماله، ونشر أول لوحاته في مجلة الحرية سنة 1961.

ثم نشر رسومه عبر صفحات جريدة «السياسة» الكويتية بدءاً من يوم 13 آب 1969، وقدم فيها مخلوقه الفلسطيني الأهم حنظلة. وهو الشخصية التي تحدث عنها حينها في بيان: «إن حنظلة ولد في 5 يونيو/ حزيران 1967، وإنه عربي ولا جنسية محددة له». وجسّدها العلي في صورة طفل صغير اسمه «حنظلة» مكبّل اليدين خلف ظهره، يشير بهما إلى الضعف والهزيمة اللذين لحقا بالإنسان الفلسطيني بسبب احتلال الإسرائيليين وطنه. وقد ادار ظهره للناس دلالة رفض للواقع الذي ساهم الجميع بتراكم السوء فيه، كل من مكانه ودوره وصلاحياته.

واستعان ناجي العلي بشخصيات كاريكاتيرية أخرى ليوصل أفكاره من خلالها، منها «فاطمة» التي تمثل المرأة الفلسطينية القوية التي لا تهزم. المرأة المقاتلة التي تنبأ بها عن الشهيدة الحية ليلى خالد والبطلة الشهيدة دلال المغربي وغيرهن أكثر من ينصفهن إحصاء… وصولاً إلى المسعفة الشهيدة دلال النجار.

السمين العربي، وهي الشخصية الثالثة التي يرمز بها ناجي العلي إلى العرب المتخمين بالمال والاكل والخيرات المهدورة والمدججين بالغباء وانحطاط الروح والكسل عن القتال والقانعين بالفتات من قيم الحرية والتقدم والانتصار، المتشاطرين بتقديم الشكاوى والعرائض والبيانات، الواقفين بانكسار أمام أبواب الأمم المتحدة، والمسرعين لاستئجار الجيوش لتدمير كل روح في هذه الأمة، والمهدارين أموالهم بين يدي كوندا وإيفانكا وتسيبني والمتفاخرين بجاسوستهم الأشهر المصرية هبة سليم التي أبكت غولدا مائير.

الفلسطيني الفارع الطول الهزيل البنية، كهيكل عظمي، وهو شخصية رمز بها ناجي العلي إلى أبناء شعبه، المنتظرين فتات الأونروا ورواتبها ومدارسها وضغوط الاحتلال والدول العربية على مخيمات التشرد فحولتها سجوناً مسورة بالأسلاك الشائكة لتحول شبانها مشاريع مجرمين وفتياتها متسولات ورجالها قاعدين في زواريبها الضيقة النتنة ينتظرون مذكرات الجلب والاستدعاء.. لكن تجويع الفلسطيني لم يحل عن تجذر الثورة وتحول المخيم مدرسة عز متصاعدة حتى غدت المخيمات خزان أجيال لا يتوقف عن إبداع المقاومين والثوار، وحيث انحرفت السلطة عن سكة الثورة لم تتمكن من تطويع المخيمات الفلسطينية.

الطابور الخامس، أولئك الحقيرون في ماديتهم الذليلون في عظمة الباطل المستكبر، الذين يرتزقون بالقليل من دولارات خضراء او تنك العمالة او فضة السماسرة.. ومستعدون لأن يبيعوا أي شيء لأجل أن يمارسوا إرهاصات جيناتهم الوضيعة، ولو نحروا ما تبقى فيهم من ضمير.

ولناجي العلي رسم كاريكاتور معبر إذ تقول فاطمة إحدى شخصيات رسومه انت ارجمي الإسرائيليين اما أنا فأرجم القيادات الفلسطينية.

أنجز أكثر من 40 ألف رسمة كاريكاتورية ساخرة ومؤثرة وجريئة جداً تثور على الحالة السياسية السائدة في فلسطين والعالم العربي وتعكس الرأي العام فيهما، وتنتقد الحكومات والقيادات العربية والفلسطينية.

وصفته مجلة التايم بـ«الرجل الذي يرسم بعظام البشر«. وقالت فيه صحيفة أساهي اليابانية إن »ناجي العلي يرسم بحامض الفوسفور« لشدة صراحته في رسومه المباشرة.

وناجي العلي قائد بالفن لتحرير أهل فلسطين وصولاً لتحرير أرضها من الفاسدين والمحتلين. وكان فيه النقيض أنه محبوب جداً لإبداعه ومكروه بشدة لصدقه وجرأته، حتى النبوءة، فقد تلقى عشرات التهديدات بالقتل له وأسرته.

اغتياله

من السياسة الكويتية، انتقل العلي، مع تأسيس صحيفة السفير اللبنانية في بيروت إليها ليتولى زاوية الكاريكاتير طيلة معظم عمرها المديد بضعة عقود، حتى التصق اسم السفير بنجومية ناجي العلي، والعكس بالعكس. ومن بعدها عاد إلى الكويت ومن ثم لندن ليكون رسام الكاريكاتير في صحيفة «السياسة» الكويتية هناك مجدداً.

وفي لندن كان على موعد مع رصاصات غاشمة أطلقها مأجور، ربما باسم العرب، وربما باسم فلسطين، وربما باسم الاستسلام، لكنها برسم العدو. لكن النتيجة واحدة وهي إسقاط قامة ناجي العلي فوق أحد أرصفة لندن، غريباً عن شعبه، مشرداً بعيداً من اهله، مضرجاً بدمائه التي كانت برسم السفك بين السجانين وأبواق القضية.

مخلوقه حنظلة الذي ولد ثائراً وليس مطبّعاً، كان يرسم نهاية العلي المؤجلة، بانتظار ان يطلق أحدهم في قبو جهله القرار بتصفيته، ظناً منه أن ثورة ناجي العلي تعيق الانتصار، والحقيقة انه بإيقاظ شعبنا في فلسطين تنتصر فلسطين. كما أثبتت التجارب المديدة من الاستسلام والتفريط حتى بيع القضية طيلة ثلاثة عقود من الانحدار المتواصل الذي استسقى دماء غالية كثيرة من قادة الثورة بمعظم فصائلها وصولاً لأطفال غزة الميامين.

تقول زوجة ناجي العلي إنه التقى الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات 3 مرات، انتهت كلها سريعاً، لشدة الخلاف بينهما.

كان الفنان العلي يعرف أن قدره هو الاستشهاد، وليس مهماً أية يد ضغطت على الزناد، ولا أي رصاص اتجه إلى رأسه المبدع، ولا ماركة الرصاص، بل المهم من اتخذ القرار وما مصلحة فلسطين من اغتيال يد ناجي العلي المنذورة لفلسطين. وفي بدايات الانتفاضة الأولى في فلسطين، التي سميت انتفاضة أطفال الحجارة، تم اغتياله بينما كان يسير في اتجاه مكتب صحيفة القبس في لندن بإطلاق النار على رأسه مباشرة. ظل غائباً عن الوعي حتى وفاته في المستشفى يوم 29 آب من السنة نفسها، وهو في عامه الخمسين.

وكالعادة لم يعرف قاتله حتى الآن، حتى أن الشرطة البريطانية لم تفتح تحقيقاً في عملية اغتياله إلا في عام 2017، أي بعد مضي 30 عاماً على الواقعة. ولم يسال أحدٌ السلطة البريطانية عن تقصيرها في حماية قامة كالفنان الشهيد وقد استشهد فوق أرضها؟

ولعب الفنان المصري نور الشريف دور ناجي العلي في فيلم عنه، لكن تم منعه في معظم الدول العربية وخاصة دول الخليج لأنه هاجم الحكومة المصرية ونسب اسباب مقتل ناجي للحكومات العربية والمتخاذلين العرب بالزحف نحو العدو.

أبرز ما قاله وما زال راهنياً واستشرافياً

«اللي بدو يكتب لفلسطين، واللي بدو يرسم لفلسطين، بدو يعرف حالو: ميت».

«هكذا أفهم الصراع: أن نصلب قاماتنا كالرماح ولا نتعب».

«الطريق إلى فلسطين ليست بالبعيدة ولا بالقريبة، إنها بمسافة الثورة».

«كلما ذكروا لي الخطوط الحمراء طار صوابي، أنا أعرف خطاً أحمر واحداً: أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع على اتفاقية استسلام وتنازل عن فلسطين».

«متهم بالانحياز، وهي تهمة لا أنفيها، أنا منحاز لمن هم «تحت»».

«أن نكون أو لا نكون، التحدّي قائم والمسؤولية تاريخية».

… خالق حنظلة الثائر لا المطبّع

محمد خالد الخضر

واحدٌ وثلاثون عاماً مرّت على رحيل رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي دون أن يمنع فيها غياب جسده بقاءه في دائرة الضوء بما تركه من لوحات كاريكاتيرية ساخرة وشخصية حنظلة التي اخترعها وغدت أيقونة فنية عالمية.

تميزت أعمال ناجي الفنية بالنقد اللاذع والموجّه مسخراً فنّه للتغيرات السياسية ولخدمة فلسطين وشعبها ولفضح الاحتلال ولا سيما عبر شخصية حنظلة البالغ من العمر 10 سنوات والتي رسمها لأول مرة عام 1969 وهي لطفل فلسطيني تهجر من وطنه في العاشرة من عمره وسيظل في هذا السن حتى يعود اليه.

وأما سبب تكتيف يديه فذكر العلي: «كتفته بعد حرب تشرين التحريرية 1973 لأن المنطقة كانت تشهد عملية تطويع وتطبيع شاملة في دلالة على رفض حنظلة المشاركة في حلول التسوية الأميركية في المنطقة فهو ثائر وليس مطبّعاً».

أصبح حنظلة في ما بعد بمثابة توقيع ناجي على لوحاته وحظيت بحب الجماهير العربية لكونها تعبيراً عن صمود الشعب الفلسطيني بوجه المصاعب التي تواجهه.

كما كان العلي يكرّر رسم شخصيات أخرى في لوحاته مثل شخصية فاطمة التي لا تعرف المهادنة وشخصية سمينة وتمثل الشخصيات الانتهازية وشخصية جندي الاحتلال «الاسرائيلي» طويل الأنف المرتبك أمام الحجارة التي يرميها أطفال فلسطين.

الفنان التشكيليّ رامز حاج حسين قال عن ناجي العلي: «هو بمثابة الأيقونة التي تحفظ روحي من الانزلاق. وهو نقطة العرق التي تلسع جبيني إذا تراجعت. وما يميز فن ناجي الروح المتقدة الوثابة التي تكمن وراء كل خط رسمه هذا الفنان المقاوم الحامل هموم شعبه وأمته عبر تعابيره ورسومه الساخرة الناقدة.

الأديب محمد عزوز أكد أن موضوع رسوم ناجي التحريضية على النضال من أجل العودة لوطنه الأم كان السبب في التخطيط لاغتياله من قبل العصابات الصهيونية، معتبراً أن شخصيتي حنظلة وفاطمة ظلتا في ذاكرة كل عربي نقي وفي لبلده ولأخوته في الإنسانية فتخلّدت وخلّدت صاحبها.

وأشار عزوز إلى أن طفولة التغريب التي عاشها الفنان العلي عن وطنه كانت بذرة ظهور الموهبة لديه نماها حسه الوطني وعمله المبكر في مهن قاسية مختلفة، بسبب ضيق الحال مظهراً وعياً سياسياً أدخله السجن مرات عدة لينطلق بعدها إلى العالمية ولتنهال عليه الجوائز كأحد أشهر رسامي الكاريكاتير في العالم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى