«نظرية المؤامرة» لا تكفي لحلّ مشاكل العراق!

د. وفيق إبراهيم

الاختباء وراء اتهام القوى الخارجية لتبرير هذا الهيجان الشعبي الذي يجتاح جنوب العراق متدحرجاً نحو وسطه، ليس حلاً للمشاكل الداخلية العميقة ببعديها الاقتصادي المريع والسياسي المتفاقم.. فلولا وجود هذا التراكم الداخلي، لما تمكنت تدخلات الخارج الأميركي والسعودي والبريطاني والإماراتي من النفاذ لتحريض «الداخل» على «الداخل».

هناك إذاً أوضاع داخلية منهارة تماماً نتجت من قصور حكومي مريع في معالجة «فساد سياسي» تشكّل إلى موازنات المؤسسات العامة، فاستباحها مؤدياً منذ الاحتلال الأميركي للعراق في 2003 وحتى الآن إلى الجمع بين الإفقار العميق للمجتمع والبطالة المتصاعدة والجوع الذي يزحف بسرعة محوّلاً العراقيين كتلة من المعوزين مقابل فئة قليلة من الأغنياء وقلة من أبناء طبقة وسطى تكاد تحتجب. هناك معلومات متداولة عن 60 في المئة منهم بحالة فقر مريع و20 في المئة طبقة وسطى. أما العشرون في المئة الباقون فيشكلون طبقة السياسيين وأعوانهم وشركات محلية وأجنبية، معظمها أميركي.. هذه الفئة تنهب امكانات العراق منذ الاحتلال الأميركي في 2003، بشكل منظم ومن دون الحد الأدنى من المساءلة.

ويتحدّث الإعلام الغربي علناً ومن دون أي ردّ عن مئات من السياسيين العراقيين وأقاربهم يمتلكون مئات مليارات الدولارات وربما أكثر سنوياً.

في المقابل هناك صورة اجتماعية قاتمة وشديدة السواد.. فالكهرباء نادرة في بلد ترتفع الحرارة فيه إلى خمسين درجة وأكثر.. والمياه قليلة وآسنة تصيب مستهلكيها بأمراض خطيرة والبطالة مرتفعة جداً لغياب الاستثمارات الداخلية التي تفضّل حجب «مسروقاتها» في مصارف أجنبية.. ألم يعلن الرئيس الأميركي ترامب على رؤوس الأشهاد أنّ بحوزته لائحة بأسماء سياسيين عراقيين يودعون في مصارف أميركية مئات مليارات الدولارات، مؤكداً أنه قد يصادرها للتعويض عن القتلى من الجيش الأميركي في العراق.. ويبدو أنه ربط تجميد هذه المصادرة المحتملة بموالاة هؤلاء السياسيين للدور الأميركي التخريبي في أرض السواد.

بالتشريح يوجد إذاً كتل كبرى من الفقراء في كل المناطق العراقية، وخصوصاً في أنحائها الجنوبية التي تفتقر إلى كلّ شيء ولا تجد أعمالاً تعوّض بها عن تدهور أوضاعها. وهناك طبقة من السياسيين، يتورّط معظمهم بشبكة فساد وإفساد. وللتورية تبنّت خطاباً وطنياً تختبئ خلفه وتزايد بواسطته حتى على الحشد الشعبي الذي حرّر العراق من داعش، وتصدّى للاحتلال الأميركي أو مسألة تحرير العراق. إلى جانب هؤلاء، نمت فئات حزبية، كامل اهتمامها من الحشد الشعبي إلى «النجباء» فـ «الفتح» و»سائرون» و»الحكمة» و»العصائب» و»الفضيلة» وتحالف البناء.. نعم اعتنى القسم الأكبر من هذه الشرائح بتحرير العراق في كامل محافظاته المتنوعة مذهبياً وعرقياً، مجهضين محاولات البرزاني للانفصال بكردستان وكركوك، نعم هؤلاء مَن أجهض بشهدائه مشاريع التقسيم المدعومة سعودياً في الوسط والأنبار مع أدوار متآمرة لتركيا والإمارات.

لكن المايسترو أميركي دائماً، يحرّض الأكراد ويتخلى عنهم.. عائداً إلى تحريك السّنة بالتعاون مع الإماراتي والتركي والبريطاني متجذراً عند بعض الشيعة الذين لم يجدوا أدواراً عند الأحزاب الأساسية علاوي لذلك فسياساته الدائمة متآمرة لمنع العراق من العودة إلى طبيعته.

ولهذا الوضع دواعيه.. فالأميركيون خسروا آخر آليات كانوا يستثمرون بها لتفتيت سورية والعراق ولا يستطيعون تقسيم العراق بقرار مباشر فيبنون أرضية داخلية، ما جعلهم يراهنون على الإرهاب والطائفية في سورية والإرهاب والانقسامات المذهبية والعرقية في العراق. لكن مشاريعهم سقطت في هذين البلدين المتجاورين وانتصر الجيشان العراقي والسوري مع تحالفاتهما الاقليمية والدولية. الأمر الذي فرض تراجعاً أميركياً كبيراً.. فتحركت واشنطن على خط منع تحرير منطقة إدلب السورية بالتهديد بشنّ حرب مباشرة، وأقفلت خطاً حدودياً بين العراق وسورية بين البوكمال والتنف السوري مقابل الوليد والقائم العراقي بطول 224 كيلومتراً.. وذلك لمنع التنسيق بين البلدين، كما كان مأمولاً.

عراقياً، جمعت واشنطن إمكاناتها من الاحتلال المباشر للعراق وعلاقاتها ببعض المكونات السياسية لتستولِد عجزاً كبيراً إلى حدود الشلل في مؤسسات القرار السياسي في العراق.. وما حكايات الانتخابات الأخيرة والفرز وإعادة فرز الأصوات والعجز عن اختيار رئيس حكومة ومجلس وزراء من بين الكتل الكبرى وإرجاء انتخاب رئيس للمجلس النيابي مرتين حتى الآن.. إلا الدليل الفاضح على قصور هذه الطبقة السياسية وجشعها واستسلامها للمغريات الأميركية التي تتلاعب بها كيفما شاءت. هذا إضافة إلى الدور السعودي الذي يتسلل برشى ومكرمات ووعود تصيب قسماً من السياسيين فتعمي أبصارهم.. «فالسبهان» ترك دوره في لبنان ليتفرّغ لشؤون العراق متآمراً على وحدته الداخلية بتحريض السّنة على الشيعة والشيعة على الشيعة والأكراد على الاثنين معاً.

ولم تتأخر بريطانيا عن استكمال التآمر بخبراتها التاريخية التي كوّنتها عن العراق في مرحلة مع استعمارها له.. ألم ترسم حدوده سيدة بريطانية كانت تعمل في سفارة بلادها في بغداد، بينما كانت تجلس على كرسي وتمّدّ ساقيها على كرسي ثانٍ.

يتبيّن بالاستنتاج أنّ ضغوطاً دبلوماسية كبيرة دخلت على خط احتجاجات مدينة البصرة. وهي احتجاجات مطلبية صرفة، رداً على إهمال الدولة للمرافق الحياتية إلى جانب التصاعد الكبير في معدلات البطالة.. ومن الطبيعي أن يستنكر هؤلاء المتظاهرون، إهمال الدولة مطالبهم الحياتية وأن يتوجهوا بحركاتهم في الشوارع نحو مراكز حزبية ودبلوماسية يعتقدون أنها تمثّل الدولة، كان يكفي أن يدخل القليل من المندسّين على هؤلاء المحتجّين حتى تبدأ أعمال التخريب وذلك بالتقليد.. وهذه نظرية في السوسيولوجيا تعتبر أنّ الفرد في حالة التظاهر يصبح جزءاً من جماعة المعترضين فيفقد الإدراك الخاص لمصلحة الالتحاق بالعام ويصبح حاضراً للتقليد وباللاوعي.. لذلك فإنّ هؤلاء المندسّين التابعين لسفارات و»أحزاب» أدّوا هذا الدور بتوجيه محتجّين جائعين ومذعورين من أبناء الحشد الشعبي والمرجعية العليا ومعظم الأحزاب وبدأوا أمامهم بالتخريب فقلدهم المحتجّون بشكل أعنف.. حتى أنّ بعض علماء الاجتماع يقولون إنّ تضاعف العنف يدور بشكل دائري ووصل إلى الذي ابتدأ به، فلا يعرف أنه هو المتسبّب لازدياد وتيرته.

لقد أدّت أحداث البصرة حتى الآن إلى كشف القناع عن رئيس الحكومة العبادي الذي يترأس تحالف الإصلاح ومدى تلكّؤه في معالجة الأحداث قبل تفاقمها. فتركها ليفرض القبول به رئيساً للحكومة المقبلة، وذلك تحت خطر استمرار الاضطرابات، والدليل أنّ حليفه السيد الصدر قائد أكبر تجمع نيابي «سائرون» يطالب اليوم باستقالته.. وأنّ المالكي أعلن بدوره انسحابه من معركة رئاسة الحكومة المقبلة. هذا يكشف أنّ التآمر موجود لكنه لا ينفي وجود إهمال خدمي كبير في العراق سببه فساد سياسي ضخم.. لعلّ أحداث البصرة تشكل مفصلاً للعودة إلى معالجة هموم الناس اليومية.. هؤلاء الناس الذين يزوّدون الجيش والحشد والأحزاب ببناهم الأساسية.. فاتركوا نظرية المؤامرة التي لا مكان لها حين تتأمّن مصالح الناس وينحسرُ الفساد وتتأمّن الأعمال والخدمات، وأهملوا نظرية المؤامرة لتأخذوا عراقاً عملاقاً يؤدّي دوراً إقليمياً كبيراً في وجه الغزو الأميركي والتآمر السعودي البريطاني.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى