في أمسية «دار فكر» الشعرية فاض الشعر… والنزيف وطن

اعتدال صادق شومان

تعدّدت الأصوات الهادرة بالشعر صوغاً وفيضاً يضرب عميقاً في المعاني على منصة واحدة في الأمسية التي أقيمت في «دار الندوة» بدعوة من «دار فكر للنشر والأبحاث» ضمن سلسلة نشاطات فكرية تنظمها الدار.

ساعة ونيّف على إيقاع سفوح الشعر صدحت القاعة بروعة رنين الصوت في عناقه لحروف انسلّت من دفق لغة بديعة غراء تنوّعت على شواطئ بحور الشعر المديدة ما بين القَصْر في القول كومضة ضؤئية خاطفة وبين إسهاب عمودي الإيقاع والوزن، غير أنها لغة بقيت في كلّ أحوالها وفية للشعر على أديم فضائه الفسيح بتناغم ألفاظه العذبة صوراً فنية جميلة لامست شغاف القلب والوجدان بتوائم المفردات والصور الشعرية.

هي أمسية من السيل العرم في ميدان الشعر تماهت بين دفء خواطر شعراء استعادوا توقد مشاعرهم القومية والوطنية، وفي أغوار وجدانهم ترادفت زوايا زوابع حمر لنسورها دثار ثوب معجون بالبارود والدخان تهزأ بالردى والدم، والدم وارف الظلال، وأنشودة لوطن لا ترديه رصاصة او مقصلة، وقلب يَنزِفُ لدمشق وبغداد وأغاريد الصباح، ولـ غزة ألف ضوء، وكرامة أرض يتضوّع فيها العز وينمو ويكبر، أخصبتها دماء الشهادة قالت للخيانة ذات صباح خذها من «يد سعاده»…

من على منبر ما جفّ مداده، اعتلاه الشعراء: هنيبعل كرم، مكرم غصوب، أمين الذيب، لارا ملاك ووائل ملاعب، فقالوا، وأجزلوا القول على نية أمة حيّة و«كم من تنين قد قتلت في الماضي».

بدعوة من «دار فكر» وبحضور جمع من المهتمّين تقدّمهم رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي حنا الناشف، نائب رئيس الحزب وائل الحسنية، عميد الثقافة والفنون الجميلة د. زهير فياض، عميد العمل والشؤون الاجتماعية بطرس سعادة، العميد خليل بعجور، ناموس المجلس الأعلى توفيق مهنا، رئيس المجلس القومي سمير رفعت وعدد من المسؤولين.

بداية كلمة ترحيب ألقتها مديرة «دار فكر» مينار الناطور، ثم كلمة تعريف بالشعراء ألقتها الطالبة نوال هاشم، بعدها قدّم الشعراء باقات من قصائدهم.

«البناء» اختارت نسقاً من القصائد التي ألقيت في الأمسية وهي كالتالي: ثلاث قصائد للشاعر هنيبعل كرم: «إلى أنطون سعاده» و«إلى نسور الزوبعة» و«أنا أول العائدين».

وللشاعر مكرم غصوب: «السؤال» «كأنّك الغياب» «في عشق الفدائية» و«خذها من يد سعاده».

أما الشاعر أمين الذيب فقد اخترنا له ومضات من الشعر الوجيز منها ومضة «لدمشق وبغداد أغاريد الصباح».

أيضاً اخترنا للشاعرة لارا ملاك «قصائد ومضة» منها «إلى حنظلة الطّفل الفلسطينيّ» وللشاعر وائل ملاعب قصيدة بعنوان «ما آنَ الأوانُ يا شَآامُ «

هنيبعل كرم إلى أنطون سعاده

تهاجرُ بنا في وطنٍ… وأنتَ بعيدُ

لا الوطنُ استقامَ ولا الخرابُ جديدُ

مهجةُ كلِّ حرٍّ أنتَ، لكَ الزّمانُ…

لا زمانَ يفرّقُ بيننا… لا القتالُ ولا الحديدُ!

ها دماؤنا خذها إلى حيث تريدُ

عدْ إلينا، مرّةً، لو عدتَ ترانا

كلُّ الشّوقِ في هواكَ سجودُ

اتلُ آياتِكَ… كم ينقصنُا

من سِفرك كلامٌ وعهودُ

عدْ… أيّها المصلوبُ عنّا

غيابُك في أمّة البؤسِ جحودُ

لها الدّماءُ إن دِيست كرامتُها

لكَ الأرواحُ لو أمرتَ تجودُ

أنتَ الطّريقُ وأنتَ الشّهيدُ

وأنتَ الشّاهدُ وأنت الشّهودُ!

كاهنٌ بكاكَ… وردّدَ للورى

«تحيا بلادي، لكَ الخلودُ»

خذني إليكَ شهيدًا، ذا حلمي

يعودُ بنا عزٌّ إليكَ أو أنتَ تعودُ!

إلى نسور الزّوبعة

رفيقي وما أدراكم مَن رفيقي؟!

زادُه الترابُ وزوّادةٌ وبعضُ الحصى

تحتَ ركبتيه والسّلاح…

رفيقي دمُهُ في كلِّ مكان

حممٌ من مجدٍ ومجدٌ متاح!

رفيقي، ما أدراكم مَن رفيقي؟!

يشربُ الغيمَ… لا لعطشٍ،

عيناه تهزآن بالرّدى

والجيوشُ ميمنةً ميسرةً وَسعَ المدى

والدّخانُ أعمدةٌ… أعمدةٌ إلى السّماء!

لحمُه فُتاتُ خبزِ الفقراء،

دمُه جمرُ عشقٍ رياحينُ الضّياء…

هاتِ لي رفيقي!

هاتِ لي ثوبَك المعجونَ بالبارود والدّخان،

هاتِ لي يدَكَ ترمي من قاسيونَ، أقبّلها، والرّجاء،

هاتِ لي حذاءَك داسَ رأسَ العدوّ

أزرعُ فيه حبّاً سلاماً والصّفاء…

هاتِ لي من هناك.. من أرض الكرامةِ والشّهامةِ

من أرضِ الإباء

حُفنةً أكوي بها جسدي، وشماً لقمّة بعدها قمّةٌ

بعدها قممٌ… والضّياء!

هاتِ لي ما فيك من حقولٍ،

كلُّ حقلٍ فيك زوابعُ

ترفعُ النّفوسَ إلى السماءِ… إلى السّماء!

مكرم غصوب في عشق الفدائية

«كيفَ لكافرٍ استوقَفَهُ جمالُك، ألاّ يقولَ يا الله!»

هيَ التي قالَتْ لِي: «في الحَربِ الوجودية، إن لم تَكُنْ كَلِمَتُكَ رَصاصةً في صَدرِ العَدو، فاصمُت، لَملِم خيانَتَكَ… وارحَل».

كانَ لِوَجهِها مَلامِحُ الموسيقى،

وفي عَينيْها لُغزُ عَشتاْر.

الذئابُ في عينيها، كانت تركضُ صوبي، تلتفُّ حولي، تُحاصِرُني… قبل اكتمالِ القمر!

وكمّ عَشِقتُ الأساطيرَ القديمةَ في عينيها… واكتمالَ القدر.

وكُلَما تجمّعَ الليلُ في شَعرِها سناء

تَبَعثرَ الضِّياء…

كانَتْ تَضَعُ عِقداً، ليسَ من المَرمرِ أو الياقوتِ أو اللؤلؤِ أو الْجَاد،

سألتُها: بأيةِ حِجارةٍ كَريمةٍ تَتَزَينين؟

قالتْ: بالحجارةِ في أيدي أطفالِ فِلسطين!

كانَتْ تُعانِقُني كأنَّها تُعانِقُ الأرضَ،

حتّى تَذوبَ يداها فَتَنظُرُ الى السّماءْ لِيُبلِلَنا المَطر

وأَشتَمُّ رائِحةَ التُرابِ تَفوحُ منها وزنوبيا الياسَمين

حَبيبَتي، بِماذا تَتَعطَّرين؟

يجيبُني في عَينيها اليَقين

«هَذهِ رائحَةُ الشّهادةِ في جَسَدي!»

كُنتُ أواعِدُ الْجمالَ في حَرَمِ الْجَمال،

وكُنتُ أواعِدُ الْجمالَ تَحتَ الرَصاصِ وَسطَ القِتال.

أقولُ: ابتسمي كي أشعرَ أنّ الله بخير.

تَقولُ «أحبُّكَ لكِنَّ قَلبيَ يَنزِفُ وطناً،

وتَسيرُ بينَ الألغام واللحظات،

ترقصُ حافيةً على شفرةِ الأحلام

قدماها الوقتُ

وأنا لَمْ أعرِفْ معنى الوَقت

لم أدرك أنّ الزمنَ نزيفُ ألوهة

إلاَّ حينَ انفَجَرتْ ساعةُ الصِفرِ في يَدِها.

اختفى جَسَدُها…

وما زالَ قلبُها يَنبُضُ بالحنينْ مِساحةَ أُمَة!

واليومْ أسمَعُها تُغنّي:

«أحبَبتُ الجْسورَ حَتّى التويت

عَبَرني الكُلُّ

فعَبَرتُ كُلّي

وعَليَّ مَشيت»

«خذْها من يدّ سعاده»

أحبّك يا ابن أمتي

وأسهر

كي تنام عيناك

كي تغفو، خذ قلبي وسادة

أحبك وأموت لأجلك

وأفخر

كي تحيا

كي تمارس حقك في العبادة

أحبك ولكن

أحبّ كرامتي أكثر

وكرامتي أرض ينمو فيها العز ويكبر

وكرامتي أرض أخصبتها دماء الشهادة

أمين الذيب «ومضات شعرية»

الماضي حاضر مستتر

كيف أقنع الشجرة أنّ غداً ستمطر رذاذاً

وانّ امرأة اشتهاها بيكاسو

تنتظرني أرسم أحلامها

الوجود زجاج هفيف

العدم غيمة ماكرة

بينهما أعشقك كراهب مسترسل في الشعوذة والإيمان

سمّيتها عشتار

لبلادي

وجبالها طوروس

ونهرها قدموس

وتاريخها

سعاده

لو كان لأرواح

أذرع

لكنا في عناق

على الرصيف

رسمت نهرا

الماء في البحر حصين

حوريات تجري من تحتها الأفكار

الكون أنثى

أنثى مبعثرة

يراودها

شاعر سئم طوابير الإنتظار

أغفري لموتي

فإنّ الأرض

عشق في الوريد

أجمل الأسماء

لم يعد اسمي

انما

اسم الشهيد

تعمشقت

ع جوزتي

وبعد

ما طلت السما

حاولت خبّي الغيم

بعيوني

سرقوا الهوا البعيد

شتا المدى مواعيد

وبقيت وحدي ارسما

لدمشق وبغداد

أغاريد الصباح

ولغزة

ألف ضوء

لزائن العودة

ذاكرة في عنقها

مفتاح

يا دمشق

لن أموت

فموتي موت كون

وحياة

كيف يقضي وطناً

نساؤه قبل الرجال

في يوم الوغى

للعز يمشون

أباة

لارا ملاك إلى حنظلة الطّفل الفلسطينيّ

1 – أنت وحيٌ إلهيٌّ

أدار بوجهه..

انهالت أعاجيب المدن

تقول الفراسة إنّك

مليءٌ بحبر الوجود

يا لهيبة جبينك

مستقبلًا شكل الأٌلى…

2 – لا تثق بقيودك أبداً

لك يداك فقط

ولي عيناك

حين تلتفتُ إليّ

وتبكيني…

3 – زرعتُ عينيّ قمحتين

احصد ما شئت

من قصائدي..

اغرسْ قدميك فيّ

كي تنتفض الأبصار

كي نعيش الغيم معاً…

4 – سأحوك من قلمي لك

قبّعةً ومظلّة..

كيف أقيك البرد

أنا العارية من خيالي؟

5 – لأنّك التّجريد

ولمحة التّرحال

لا رصاصة ترديك

ولا مقصلة…

6 – الذّاكرة أن ألملم أحزانك

ومن بعدها أحبّك…

7 – لستَ حبراً أو قافية

أنت اللّغات وصوت المحبرة…

8 – الزمن وفيٌّ

لهذا ستكبر..

فالعمر دمي الممتدّ

لك منّي كلّ أبعاد الماء

والنّجاة…

9 – زهداً ولدتَ

لأنّك رئة الطّفولة

ما زلت أتنفّس…

10 – مهما ابتعدت

أعود إليك..

بهدوئي سأعيد ابتكار الأرض…

في الحبّ

1 – قلتُ له:

المسافاتُ بين مسامنا عميقة

أعاد كيّ جلده بالغبار

فاحترقتُ…

2 – أغمضْ عينيك

وافتحهما،

ستراني كلّ مرّةٍ

أنثى جديدة..

لكنّك بلا جفنيك

في الظّلمة أصمُّ

في النّور أبكمُ

أين عساي أتوهُ؟

3 – النّصّ عرّافةٌ بصيرةٌ

تجاوزتْ يديك

لاقحتْ خيالك

أضافتك إلى الزّمن الآتي

رجلًا…

الحبّ مطرقة

عدلٌ يصيبُك

توازن يمنك ويسرك

حتّى تعادل وزنك…

4 – هذا المنديل وجهك السّيّال

امسح به زجاج حبّنا الهشّ..

نمْ بعدها مستسلماً لجسدك

فلم يعدْ من الممكن

أن نموت أكثر…

تأمّلات إنسانيّة

1 – لمن كلّ هذا الموت

أيّها الرّماد؟

من أفقدك لونك

وأثقل جسمك؟

لمَ كلُّ هذه الشّبهات الدّافئة؟

كأنّك إنسانٌ كاملٌ

انتهى بفعل الغياب قبلة…

2 – القمر جسدٌ برّيٌّ

قيّدته الأرض..

حتّى الضّوء لم يكن حرًّا…

3 – النّهر كوّة الأرض

عين إلهٍ ممطرة

أراك في أحشاء العشب

حصادًا مؤنسًا أخضر..

خزانتك ولّادةٌ بالأسئلة

كلّما وضّبتها

نطقت بوعدٍ أو بذكرى

فاتركْ لها مدارها المحتوم

في عطرك

وفي نسجك الواعي…

5 – حين تيأس

اخلعْ قدميك

ابتكرْ للطّريق أرضًا عارية…

6 – الخبز أن تعطي القمحة

من قوتها وتنسى..

الفكر أن تبذل أناك

للبيدر الملآن

أن تكون أفقيّ البصمة

حين تكتب…

وائل ملاعب أما آنَ الأوانُ يا شَآامُ

لِأطفالِ المَدارِسِ كَي يَناموا

صِغاراً هُمْ صَفيرُ الليلِ أرْعَبَهُمْ

وقَبلَ الّليلِ قَد حَلَّ الظَّلامُ

ألا تَكْفي الزَّكاةُ بذِكرَيات

لِأطفالٍ صِغارٍ لا يُلاموا

قد حُرِّموا أن يَفطَروا قبلَ الغُروبِ

وهُم في غَيْرِ رَمَضانٍ صِيامُ

شآامُ تشيخُ نفوسهم خلفَ السجون

وقلوبهم صحراءُ يجهلها الغرامُ

دموعهم بَرَدى.. ظهورُهُم قاسَيون

أسماؤهم.. أحلامهُم أوهامُ

ألعابهُم هَرَباً أغانيهم جنون

أفراحهم تحتَ الترابِ تُقامُ

قالت تريثْ يا فتى أياً تكون

إسمع نُباحَ الغدرِ إسمع يا غلامُ

سارَتْ جَحافِلهُم كما الأرتالْ

قَوماً تَنادوا نِسْوَةً وَرِجالْ

إنْ كَبَّروا بِثَلاثَةٍ … فَيُكَبِّروا

لِلمالِ.. ثُمَّ المالِ… ثُمَّ المالْ

دَقَّتْ طُبولُ الحَربِ يَومَ تَضَوَّروا

فَتَراصفوا جيشاً مِنَ الأنذال

جاعوا.. وخَوفُ الجائِعينَ يُبَرِّرُ

سخطاً سَخِياً في الوَغا يَنهالْ

عَطَشاً تَئِنُّ ثُغورُهم وتُغَرغِرُ

والنَّفسُ ألقتْ عِزَّها لِتَنالْ

أطفالي كانوا يُقتَلونَ ويؤسَروا

أطفالي كانوا بيدراً وغِلال

أطفالي يأبون إلا أن يتحَرَّروا

أطفالي ما قالوا .. هواهم قال

بِحَناجِرٍ فيها الوجودُ يُزَمجِرُ

تتجَرَّحُ… فَتُجيبُ كلَّ سؤال

حالي كحالِ الشامِ معها أبحِرُ

أغشى البِحارَ وأكرهُ الأطلال

حالي كحالِ الشامِ سيفاً يَبتُرُ

من قالَ أنّ الطفلَ لا يهوى القتال

حالي كحالِ الشامِ فلتتذكّروا

النّصرُ قدري والزّوالُ مُحالْ

هُناكَ خلْفَ السِّجنِ عِندَ الزّاوية

جُنْدٌ.. وشَمسٌ نارُ ثَغْرِها كاوِية

وعَوازِل مِنْ مَعدَنٍ وَلُجَيْنْ

تأسُرُ الدَّمْعَ إذا رَوَتْهُ راوِية

وَقَفَتْ عَجوزٌ عُمْرُها نِصْفَيْنْ

نِصْفٌ تَهاوى وَآخَرٌ مُتَهاويَ

وَنُدوبُها سالَتْ مَعِ النَّهْرَيْنْ

عَبَثاً تُلاقي في الضِّفافِ مُداوِيَ

رَفَعَتْ لِوَجْهِ سَمائِها الكَفّينْ

ظَنّاً بِها أنَّ الحَياةَ تَساويَ

نادَتْ محمّدَ حَيدَراً وَحُسينْ

عُمَراً وعُثماناً وإبنِ مُعاوِية

قالَتْ إلَهي.. أما وَفَيْتُ الدَّيْنْ

أمْ أُمَّتي مِليارُ ذَنْبٍ حاوِية

أطْعَمْتُ جوعَ كَرامَتي جيلَيْنْ

ونَذَرْتُ نَفْسي لِأوَّلِ الحَرَمَيْنْ

مُلِئت بُطونُ النّاسِ في الجِهَتَيْنْ

وأمْعاءُ وَلَدي .. لا تَزالُ خاوِية

فيا وَلدي… أُنظُر لِهُناكْ

أنظُر واسمَعْ.. أترَجّاكْ

هُناكَ فَتاةٌ تُحْدِقُ فيكَ

غَدَرَتْ مِنْ قَبْلٍ بِأبيكَ

دَعني يا وَلدي أوصيكَ

ولا تَفْعَلْ ما فَعَلَ أباكْ

….

وَيْحُكَ وَلدي.. أترَجّاكْ

تِلْكَ الغانِيَةُ الشَّقراء

لا تُشْبِهُ باقي الفَتَياتْ

لا تَملِكُ وَجهاً مَرسوماً

لا تَحيا ألماً وهُموماً

لا تَحمِلُ إسماً وَسِماتْ

لا هَزَّتْ طِفلاً بِيَدَيْها

لا أذْرَتْ طيباً نَهْدَيها

لا تَفرَحُ أبداً لا تَحزَنْ

لا تَقْلَقُ لا تَحيا بِمأمَنْ

لا تتبدَّل أو تَتَجَدَّدْ

أو تتقَمَّصْ أو تتبَدَّدْ

لا تُتْقِنُ مَوْتاً وَحَياة

لا تَهوى صِفَةَ التّأنيثْ

لكِنَّها يا وَلدي أُنثى

عُهراً فَوقَ الأرْضِ تَعيثْ

فَلَولا عِطْرٌ مِنها أتاكْ

لا تَفْعَلْ ما فَعَلَ أباكْ

….

وَيْحُكَ وَلَدي … أتَرَجّاكْ

كانَ البَيْتُ هُناكَ جميلٌ

والزَّيتونُ عَبِيُّ الوَرَقِ

يَكسو كُلَّ عُراةَ الشَّرْقِ

والطُّرُقُ حِذاءُ الفَلّاحِ

فلا حاجَةَ عِندَنا للطُّرُقِ

كانَتْ كُلُّ الأرْضِ بَيادِرْ

والماءُ الأبْيَضُ بِالتّينْ

عَرَقُ جِباهِ يَبوسِيّينْ

حَرَثوا الأرضَ زَماناً غابِرْ

لا يوجَدُ بابٌ كَيْ يُفْتَحْ

لا يوجَدُ بابٌ كَيْ يُغْلَقْ

في الّليلِ نَنامُ وَلا نَقْلَقْ

لا أعْلَمُ مِنْ أيْنَ تَسَلَّقَ

هَذا الكَمُّ مِنَ الأشْواكْ

…..

وَيْحُكَ وَلدي …أتَرجّاكْ

يا وَلَدي تِلْكَ الشَّقراءُ

وُجِدَتْ في بَيْتِنا كالسِّحْرِ

جائَتْ خَلْفَ رُعاةِ البَقَرِ

لا أعلَمُ مِنْ أيْنَ أتَتْنا

وَرَمَتْ أشْياءَنا في البَحْرِ

كانَتْ غاضِبَةٌ مُكْتَئِبة

لا تَبْتَعِدُ ولا تَقْتَرِبُ

يَسْعُرُ في عَيْنَيْها الّلَهَبُ

لَكِنَّها عارِيَةُ الصَّدْرِ

وَرُخامٌ يَهْواهُ العَرَبُ

كانَتْ عارِيَةٌ مُلْتَهِبة

حَتّى أنّ قَبائِلَ يَعْرُبَ

حِينَ رَأوْا ساقَيْها الْتَهَبوا

باعوا سِلالَ التّينِ وَطَرِبوا

كانَتْ تَمشي وتُلقي أوامِرْ

لا أحَداً يَجرُؤ وَيُغامِرْ

صارَ البَيْتُ مكانُ اللَمّةِ

أصْبَحَ مَنْ في البَيْتِ يُقامِرْ

واجْتَمَعَتْ أعيانُ الأُمّةِ

عَدنانَ وغَسّانَ وَعامِرْ

وأنا يا وَلدي مِسكينٌ

لا أملُكُ في الدُّنيا سِواكْ

سَلَّمْتُ المُفتاحَ إلَيْهِمْ

وَرَحَلْتُ بَعيداً أرعاكْ

فَرَموا بَيْتي مِنَ الشُّبّاكْ

وَيْحُكَ يا وَلَدي.. إنْ عُدْتَ

….

لا تفعلْ ما فَعَلَ أباكْ

تصوير: جنى أبو سعدا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى