كلُّ إناء بما فيه ينضح..

اشتهر القاضي الأميركي مايكل سكونتي بعقوبات غريبة تندرج تحت مبدأ الجزاء من جنس العمل أو كما يُقال: العين بالعين! صحيح أنّ القضايا كانت مخالفات يمكن تصنيفها بسيطة أو متوسطة لا ترقى إلى درجة الجرائم، إلّا أنّ فكرة تصحيح سلوك إنسان تبقى غاية نبيلة لا بدّ على السلك القضائي أن يلتفت إليها، إن دلّ ذلك على شيء فإنّه يدل على حجم الإنسانية القابعة في صدر القاضي..

حكم سكونتي على طبيب قبضت عليه الشرطة بتهمة القيادة تحت تأثير المخدرات بإلقاء محاضرات في المدارس والجامعات عن أضرار الكحول عموماً، وعن بشاعة القيادة تحت تأثير الكحول خصوصاً. وحكم على مراهق ضرب رجلاً مسنّاً بالخدمة لمدة شهرين في دار رعاية المسنين. وحكم على سبعة شباب بزرع سبعين شجرة بعد قطعهم أشجاراً من ملكية عامة وبيعها كحطب. فالقانون لا يختصر بالسجن لأنّه مدرسة وما حكم عليه القاضي للجناة واستبداله السجن بأعمال كلّ حسب جريمته لا يؤكد إلّا حقيقة أنّ كل إناء بما فيه ينضح، فهو يؤكد أنّ السجن ليس غاية بحد ذاته، وإنما وسيلة المجتمع لإصلاح المجرمين. لن نتكلم عن عقوبة القتل والاغتصاب ففاعلوها ستكون جنحهم أكبر مما ذكر من عقوبات بسيطة، لكني على قناعة أنّ أمثال هذا القاضي سيكونون الأجدر على تحديد سقف العقوبات والتشريعات.

قيمتنا الحقيقية في الحياة ليست بمقدار ما نأخذ منها وإنما بمقدار ما نعطي فيها، قيمة الشمس بالنسبة إلينا ليست في ضخامتها، وإنما في الضوء والدفء الذي تمنحنا إيّاه. بعض الناس مرضى ينتقمون من آخرين عن طريق آخرين. تجد أحدهم يحرم الناس مما حرم منه عمداً، أحد هؤلاء المرضى كان يحبّ أمه حدّ الجنون، وكان يعامل زوجته كما يُعامل العبيد، وتبين أنّ السبب في هذا أنّه ينتقم لأمّه من أبيه الذي كان يعاملها بالطريقة ذاتها التي يعامل هو بها زوجته الآن!

بالمقابل نجد شخصاً عاش الظروف نفسها ولكنّه يعامل زوجته بالحسنى، لأنه يعرف مدى العذاب الذي ذاقته أمّه، وهذا هو النبل الحقيقي. فآنية الماء لا تنضح إلّا بالماء وآنية اللبن لا تنضح إلّا باللبن. وهذا شأنه شأن الأواني الحسيّة في داخل كلّ منّا لا يخرج منها إلّا ما كان فيها. فالإنسان النبيل لا يصدر عنه إلّا الخلق النبيل وكذلك من امتلأ إناؤه الحسّي بالحقد والكره والبغض فلن يفيض إلّا بالسلبية مهما حاول إخفاء ذلك. عندما تنضح بالسلبية سيصيّرك الآخر نكرة ولن يحتاج إلى أسباب تذكر ليجرعك كأس الاحتقار. احتقار ما فاض من داخلك. فالناس يتمايزون. منهم العادل ومنهم المظلوم والأهم من هذا وذاك أن تكون إنساناً. لن أحدثكم عن سكرة الموت التي ستجعلنا نرقص على حبلها ونحن نفرغ كؤوسنا بما تحتويه لذا دعها تنضح بالحب والحياة وقبل ذلك بالإنسانية.

صباح برجس العلي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى