دلالات منتدى الشرق الاقتصادي… وتزامنه مع حرب ترامب الاقتصادية

حسن حردان

تحوّلت كلّ من روسيا والصين، في السنوات الأخيرة إلى ملتقى للشركات العالمية ورجال الأعمال الباحثين عن فرص الاستثمار وكذلك القادة والمسؤولين في دول العالم من مختلف اتجاهاته من الشرق والغرب، حتى بات الحديث السائد هذه الأيام عن أنّ العالم حسم أمره بالاتجاه شرقاً والتسليم بأنّ العملاقين الروسي والصيني باتا يلعبان دوراً مركزياً في قيادة الشرق، ومعه جزء من الغرب، نحو التأسيس لعلاقات اقتصادية دولية جديدة خارج قواعد الهيمنة الأميركية، انطلاقاً من أنّ الاقتصاد هو القاطرة التي تصوغ في النهاية علاقات الدول وسياساتها، فمن يملك القوة الاقتصادية وثقل حركتها في العالم يصبح هو القطب والمركز والمحور… ولماذا لا طالما أنّ الأرقام والوقائع كلها تؤكد حقيقية انتقال مركز الثقل في الاقتصاد العالمي من الغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية إلى الشرق بقيادة روسيا والصين وغيرهما من الدول الصاعدة اقتصادياً والمنضوية في إطار منظمة شنغهاي أو مجموعة دول «بريكس»، والذين باتوا يشكلون القاعدة الأساسية لإعادة رسم الخريطة الجديدة للاقتصاد العالمي، واستطراداً النظام الدولي الجديد الذي بدأ مخاض الولادة على أنقاض تراجع وترنح وانحدار الإمبراطورية الأميركية التي تربّعت على عرش الاقتصاد العالمي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية… لكنها اليوم باتت تعاني من آلام الأزمات الاقتصادية والمالية نتيجة تراجع معدلات النمو فيها على خلفية انخفاض حصتها من الناتج العالمي إلى ما دون الـ 18 بالمائة بعدما كانت قد تجاوزت عتبة الـ 40 بالمائة بعد الحرب العالمية الثانية، وتراكم حجم الدين العالمي وبلوغه عتبة الـ 21 تريليون دولار وتنامي العجز في الموازنة ليصل إلى تريليون دولار وكذلك تزايد عجز الميزان التجاري الذي بلغ ما يناهز 700 مليار دولار…

إنّ انعقاد منتدى الشرق الاقتصادي الروسي في مدينة فلاديفوستوك الروسية بمشاركة نخبة كبيرة من القادة والسياسيين والاقتصاديين في العالم، في هذا التوقيت بالذات، إنما يكتسي أهمية كبيرة على الصعد الاقتصادية والسياسية، لا سيما انه يتزامن مع الحرب الاقتصادية التي بدأها الرئيس الأميركي دونالد ترامب على دول العالم تحت عنوان حماية الاقتصاد الأميركي من المنافسة الأجنبية، وذلك عبر رفع الرسوم الجمركية على السلع التي تدخل إلى الولايات المتحدة وفرض العقوبات الاقتصادية والمالية التي الدول والشركات التي ترفض الالتزام بالعقوبات التي فرضتها واشنطن على روسيا والجمهورية الإسلامية الإيرانية إلخ… في سياق محاولة بائسة لإنعاش الاقتصاد الأميركي وإخراجه من أزمته البنيوية العميقة التي دخل فيها بفعل الإنفاق الهائل على حروب أميركا الاستعمارية الخاسرة ونتيجة اشتداد المنافسة الاقتصادية الدولية… لكن كما هو واضح فإنّ هذه الحرب الاقتصادية دفعت وتدفع الدول المستهدفة والمتضرّرة منها إلى تعزيز علاقاتها الاقتصادية والتجارية لإحباط أهداف هذه الحرب ووضع حدّ لتسلط وهيمنة الدولار الأميركي المتبقي من أسلحة الهيمنة الأميركية الأحادية بعدما انهارت هيمنتها العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية…

أولاً: إنّ الصين الصاعدة اقتصادياً إلى القمة وباتت تتقدّم على الولايات المتحدة، تعمل على إيجاد أسواق جديدة من خلال إحياء طريق الحرير وتعزيز التجارة بين دول منظمة شنغهاي ومجموعة دول بريكس وتنشيط حركة الاستهلاك في السوق الداخلية الصينية الأكبر في العالم عبر رفع مستويات الدخل والقدرة الشرائية للمواطنين الصينيين والتي شهدت تحسّناً مضطرداً بالتوازي مع خطط التنمية الاقتصادية التي تشمل كلّ أنحاء الصين للقضاء على ما تبقى من فقر وردم الهوة بين الريف والمدينة والتي حققت نتائج هامة يمكن لأيّ زائر للصين تلمّسها…

ثانياً: أما روسيا فهي أيضاً توسّع من حركة اقتصادها الناهض بقوة على خلفية التركيز على تنمية الصناعة والمشاريع التنموية المحلية وزيادة الاستثمارات في الشرق الروسي والعمل على تعزيز التبادلات التجارية مع الخارج والعمل على جعل هذه التبادلات تتمّ بالعملات الوطنية بدلاً من الدولار الأميركي.. وكان لافتاً كلام الرئيس بوتين في مؤتمره الصحافي اثر محادثاته مع نظيره الصيني بينغ على هامش منتدى الشرق الاقتصادي «إنّ الجانبين الروسي والصيني أكدا على اهتمامهما بتعزيز استخدام العملات الوطنية في الحسابات التجارية ما سيؤمّن استقرار الخدمات المصرفية التي تقدّم لعمليات التصدير والاستيراد في ظلّ تنامي المخاطر بالأسواق العالمية»، وتأكيده» أنّ الدين العام الأميركي يشكل تهديداً للدولار وعلينا التعامل بعملات أخرى»، وتوقع بوتين أن يصل حجم التبادل التجاري بين روسيا والصين بحلول نهاية العام الجاري إلى 100 مليار دولار» في مؤشر على مدى تطوّر العلاقات الاقتصادية ومتانتها بين البلدين.

ثالثاً: حضور أكثر من ستة آلاف مشارك من 60 بلداً في أعمال منتدى الشرق الروسي يتقدّمهم رئيس الوزراء الياباني شينز آبي، ورئيس وزراء كوريا الجنوبية لي ناك يون، ورئيس منغوليا خالتاما بانولغا، والرئيس الصيني بينغ… إلى جانب مشاركة واسعة من رجال الأعمال من هذه الدول، ما يؤشر على مستوى الاهتمام وتوجه العالم نحو الاستثمار في الشرق الروسي وتطوير العلاقات الاقتصادية وزيادة الاستثمارات بين هذه الدول والشركات من جهة وروسيا من جهة ثانية… ومن المتوقع أن تتجاوز الاتفاقيات الاستثمارية التي ستتمّ على هامش المنتدى ما تمّ إبرامه خلال المنتدى في العام الماضي والتي بلغت في حينه 44 مليار دولار، وذلك انطلاقاً من قرار العديد من الدول والشركات العالمية التوجه نحو الاستثمار في الشرق الروسي…

هذه التطورات الاقتصادية تشكل رداً قوياً على الحرب الاقتصادية والعقوبات الأميركية وتوجه صفعة قوية لجهود الرئيس الأميركي ترامب لمحاولة إضعاف الاقتصاد الروسي للتأثير على دورها المتنامي على الصعيد الدولي والذي يؤثر على النفوذ الأميركي، كما تشي هذه التطورات وتؤكد بأنّ العالم يسير قدماً نحو تعزيز انتقال مركز الثقل في حركة الاقتصاد الدولي من الغرب إلى الشرق ليرسم مشهداً جديداً على مستوى القرار الاقتصادي الدولي يطوي صفحة تربع أميركا على عرشه، بالتوازي مع انحدار الهيمنة الأميركية على المستويات كافة…

انّ الزمن الذي كانت فيه أميركا تشكل مركز الحركة الاقتصادية الوحيد على الصعيد الدولي قد ولّى، كما ولّى معه الزمن الذي كانت فيه أميركا تنفرد في صوغ القرار الاقتصادي الدولي أو احتكاره، والذي يتواكب أيضاً مع تراجع الهيمنة الأميركية على المستويات العسكرية والسياسية والدبلوماسية، في مؤشر قوي على دخول الإمبراطورية الأميركية مرحلة الانحدار والأفول المتدرّج والمصحوب بآلام تظهر في اضطراب السياسة الأميركية التي تحاول يائسة إعاقة ذلك عبر الحرب الاقتصادية والمالية والعقوبات.. لكنها عندما تفعل ذلك إنما تسهم عملياً في تسريع هذا الأفول المحتوم الذي من الممكن أن تكون آلامه أقلّ وطأة وقسوة على أميركا فيما لو سارعت إلى التكيّف مع التحوّلات الدولية الحاصلة والتي لا يمكن إيقافها أو منعها… لكن كما هو حال جميع الامبراطوريات الآفلة عبر التاريخ لا تسلّم بذلك من تلقاء ذاتها بل ستبقى تقاتل بكلّ ما لديها من وسائل إلى أن تصل إلى مرحلة لا يعود بمقدورها مواصلة عناد الوقائع…

كاتب وإعلامي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى