جيهان محمد علي… بألوان «الشام» توارب عين الرائي

طلال مرتضى

بعيداً عن سلطة المفاتيح النقدية وما تذهب إليه من استنباط أو استشراف متنامٍ غير منتظم أو محتدم أو ساكن لدرجة الخمول، يتوقف الرائي أمام سؤال الحال، أين أنا؟ وماذا التقطت عين للحظته الأولى، هل يقرّ حينها معترفاً: وجدتني.

تلك إشكالية يتلمسها الرائي حين يتوقف مجبراً أمام عمل ما، خرج موقعاً من محترف الفنانة التشكيليّة السورية المغتربة جيهان محمد علي، من خلال طرح جملة أسئلة متصلة منفصلة، تتكاثف داخل مربع مفتوح الفضاء أو مأسور تحت غواية إطار يتوسل قصص الجغرافيا والحدود. وكباب أولي للبحث عن ذات غائبة أو تائهة، هو السؤال ذاته، أين أنا؟

ثمة إرباك فعلي قد يذهب بقارئ أعمال جيهان، يبدأ بالترافد عبر تصاوير كامنة واستنتاجات من المتخيل الرجعي للحالة، لتحليل إشارات أي عمل والوقوف على دوالٍ معناه ومعطاه للوصول بالنهاية إلى سدّ نهم الأسئلة السالفة. ما هو مربك على القارئ العادي هو الولوج مباشرة، نحو تفكيك ترميزات اللون لالتقاط بعض من الدوال المواربة أو التي تتلطى وراء ما يدور في فلك الفنانة ذاتها.

لكن اللعبة الفنية تشي غير هذا، فالعين القارئة دائماً ما تجد شيئاً يخصها هي دون سواها، ويمكن لها أن تتبع خيوط سرّه عبر مسائلة الذات أو استكانة الحواس في لطشة ريشة ما أو ظلّ موارٍ لما هو حقيقي. هذا من باب ما قاله ساسة النقد الفني. لكن اللعبة مع جيهان بدت وكأنها ضرب تحدٍّ، حين اتخذت من العين القارئة الرائية نداً، وهذا ما جعلها تُقصي الكثير من فحوى أعمالها وراء حجب اشتغلت عليها بعناية لتذهب بقارئها نحو فلوات أبعد، قد يجد بها ضالته.. كان هذا استفزازاً لي منذ البدء، لحظة الوقوف الأولى أمام اللوحات، فقد عمدت التشكيلية إلى اعتماد الألوان البديلة، فكان من السهل لو أنني أمسكت خيوط اللون الأحمر أو الأبيض أو الأخضر العادية، لكنها لم تقدم عملاً واحداً بهالة اللون الأصلي، بل ذهبت نحو الألوان البدعية، متخففة من إثم الألوان الأصلية أعلاه كنهج أرادته سبيلاً.

لعلّ قارئ آخر يذهب بعيداً بالقراءة أو يستنفر لفكّ أكواد السرّ المخبوء مضمر الرسامة عينها، وعلى اعتبار أن أي عمل إبداعي، لا بد أن يترك مفتعله شيئاً من ذاته، لهذا… ذهبت دون تلكؤ للبحث في مشارب الفنانة الأولى، وهذا ما جعل دخولي إلى تلافيف أعمالها يسيراً.

الكثير مما يفكون دوال اللون يردونه إلى مرجعيته الأولى، على سبيل المنال ليس إلا، لم يكن الأزرق في أي حالة إلا دلالة للصفاء والهدوء، على عكس الأحمر الذي يذهب في خطين متنافرين أو مستقيمين لا يلتقيان بالمطلق من خلال أن أحدهم يشير إلى طمي العاطفة والحبّ، والتالي قد يشي بالعكس تماماً كالثورة والتي غالباً ما يكون الدم رمزها من باب الغصب والحنق.

«جيهان محمد علي» بنت مكانها، طبيعتها، ترابها، لهذا نحت بكل أعمالها ـ وبعيداً عن تعدّد موضوعاتها ـ إلى الألوان الشامية، وهي ألون تخص منطقة بعينها ولها دلالاتها الخاصة وإشاراتها وانزياحاتها، فقد تماهت تماماً حد الذوبان داخل إطار لوحتها من خلال ارتكابها معصية الرسم على منحيين، الأول هو عملية الإشباع، وأما الثاني فهو التطعيم. فالأول، أي الإشباع يُعتبر حجز الزاوية في كل عمل بالنسبة لها، وخصوصاً أعمال الأكريليك، فهي تركز على إشباع القماش دوح لوحتها بألوان عتيقة وعميقة كأرضية أولى ليتشرّب القماش حد الاختناق بهذه الألوان، مثلاً كاللون «التوتي» الغامق، وهو لون شامي بامتياز، يصلح كلون أساس يمكن البناء عليه من دون الخوف من تفشّي مسام القماش.. فمن الغريب ونحن نتابع الفنانة جيهان وهي ترسم لوحة كتجسيد لموجة بحرية هادرة، يكون حجر أساسها اللون «التوتي» الغامق، لا عجب بما أنها فكرتها.. فهي لم ترد تشكيل تلك الموجة وملامحها البيانية من الخارج كما المعتاد من قبل غيرها، بل ذهبت عميقاً، لتتخلل داخل منمنماتها وخيوطها العميقة للموجة، يعني الاشتغال من داخل مرجل الموجة، وهو ما يبرر لها إشباع القماش بلون مغاير، ليصار في ما بعد إلى التشكيلات الخارجية والتي تكون في الغالب، مطلع تالي مرحلة التطعيم الثانية، وتلك المرحلة غالباً ما كانت تقوم الفنانة جيهان بتلقيم اللوحة بالألوان المطلوبة ليس في ريشة الرسم بل برؤوس أصابعها وكأني بها تطعم صغيرها الذي لم يشب بعد… وهذا ما يجعلها تعيش حالة حميمية مع لوحتها، تطمي وقتها بهالات لونية أخرى من داخل تكوينها البنائي للفنانة الإنسانة، والتي سرعان ما تنفرج بانكشاف تام أمام القارئ والعارف بدال اللون، بعد تعويم عواطفها على السطح، وقت ترسم هالة الموجة الخارجية باللون البرتقالي، أو انجراف الرمل باللون الليموني وتلك جلها ألوان شامية خالصة…

للوقوف الكلي على المنجز الفني للسورية جيهان محمد علي وقراءته، يحتاج القارئ الرائي والعارف إلى متسع أكبر، عبوراً من إنها لا تؤطر أعمالها، فهي تتركها مفتوحة على فضاءات لا حدود مرئية لها، تتشكل فقط في لحظة القراءة بذهنية القارئ، وقد أشي بأنه افتعال يخصها هي وحدها، أو كمدماك أول ينحو لعوالم غاية التحرر وجريئة عند كسر القيود.. فالحورية في عيونها لا كما في عيون البعض، فنصفها الأول أنثى تكره الحليب ونصفها الآخر سمكة لا تطيق السقوط في شباك الشبهة أو الكنايات المرسومة في المتخيل لدى البعض… هي في كلتا الحالتين رمز للجمال، للغواية… وفي النهاية وبدال إصرارها على تبيان رسم «الثدي» بعينه المجردة، كواهب للحياة بفاعلية الأمومة الطاغية، ثم الذهاب في مرحلة ما للوقوف على تشكيل آخر تبتدع مقاماً خاصاً بهالة «نهد» رمزاً للأنثى التي تفتعل من حضورها اشتعالات شمع الغوى.. ثمة أسئلة لم تزل غائبة ـ في عجالة القراءة لم يتسنّ لي رميها هنا، وأنا غائب بكل حواسي بمراقبة أصابع خرساء تلقم جمر أنوثتها لقماش، فيما بعد أشي بأنه سيصدح بعدما أن يتحرّر من الذوبان تحت قصف تلك الأصابع المجنونة ـ عل الفرصة تأتي مرة تالية كي أضع نقاط حكايتها فوق سطور الكلام.

بطاقة:

جيهان محمد علي، تشكيلية سورية، فيينا. لها معارض فردية ومشتركة عدة في عدد من العواصم الأوربية والعربية.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى