إيران وحقيقة الدولة الظاهرة والدولة العميقة

د. رائد المصري

بهدوء… وبعقل المتبصّر لمن يريد أن يتعرّف على حقيقة إيران الدولة بكلّ مناحيها وقيمها وحضارتها وحضورها، ففيها نفحة حكمٍ سياسية في التاريخ الحديث مختلفة كلياً لدولة وشعب عانى ولا يزال من حصار وتقييد قلّ نظيره من قبل الغرب طيلة أربعين عاماً ولا يزال، فنظام الحكم في إيران مزيج من الخلطات السياسية والدينية المتداخلة والممزوجة بعناية فائقة، وهي طبعاً غير ما هو معتمد في النّظم الديمقراطية حيث تمثّل الديمقراطية وحكم الشعب الحالة الأمثل.

لمقاربة ودراسة وفهم النظام السياسي في إيران ومعرفة بناه ومؤسّساته السياسية والاقتصادية الاجتماعية، يمكن الرجوع لشروحات العلامة الشيخ محسن الآراكي رئيس مجمع التقريب بين المذاهب التي تؤكد بأنّ هيكلية النظام السياسي الإيراني تتدعّم من التفكير الفلسفي العميق والفهم الخاص لنظرية الحكم والمجتمع، وذلك عبر النظرة العقلانية لهذا المجتمع وللتاريخ وللفلسفة من خلال النصوص الدينية المتلائمة معه. فكلّ نظام سياسي قائم على الولاية أو فكرة الولاية كما يقول الشيخ: فالرئيس الأميركي مثلاً يبدأ حكمه وتسمّى بالولاية وهو يتّخذ قرار الحرب والسّلم كونه السلطة والمرجع الأعلى وهذا يتطلّب الرجوع الى رأس السلطة والحكم.

وهنا كما يشرح الآراكي وبحسب رأيه لا يمكن لأيّ نظام حكم على الأرض أن يستقيم إذا تمّ حذف نظام الولاية وفق المصطلح الحديث للديمقراطيات المنتشرة، وهي ليست مختصّة بالفكر الشيعي فقط، وهو ما يعني أنّ الحكم يتّخذ القرار بما يخصّ مصلحة الشعب الذي يحكمه، وما يعطيه ليس مفهوماً غريباً ومبتكراً من النظام الإيراني أو من الفكر السياسي الشيعي، بل هو نظام قائم بأنّ هذا الحق السلطوي لا يسلّم إلاّ لمن يحوز على الفهم لإدارة شؤون الدولة».

وبالانتقال إلى العملية السياسية يشرح العلامة الآراكي بأنّ هناك حراكاً سياسياً خصباً داخل إيران، والشعب الإيراني هو من أكثر الشعوب تدخلاً في الحياة السياسية، فكلّ عامين تقريباً هناك انتخابات إما رئاسية أو برلمانية أو مجالس محلية بلديات أو انتخابات مباشرة من الشعب لمجلس الخبراء المؤلف من 86 عضواً وهو الذي يشرف على السياسات العامة ويحيط المرشد الأعلى بكلّ المستجدات والنّصح والمراقبة، لكن شريطة أن يتمتّع هؤلاء في مجلس الخبراء بالعدل والخبرة والعلم والفقه والتشريع وأن يكون «عالماً بالعدل وعاملاً بالعدل». وهذا ضرورة وشرط لممارسة الديمقراطية التي هي حق الشعب وهو ما يؤخذ على إيران بها لناحية التقييد في الانتخاب والترشح، فيجزم الآراكي بأنها الأنسب لأنّها توصل إلى سدّة الحكم والمراقبة والتشريع طبقة نخبوية عادلة ومشرّعة وليس على طريقة الديمقراطية الكلاسيكية المنتشرة عبر العالم في ممارسة العملية الديمقراطية وسلطة الشعب، حيث تنحو هذه الممارسة في العملية الديمقراطية الى اختيار عشوائي قد يقلب ممارسة السلطة ويحوّلها الى مستبدّة ظالمة وفاسدة.

لا نتحدّث عن نظام سياسي في إيران يمتلك الحقيقة المطلقة وبأنّه النظام الأوّل في العالم، لكنّنا نشرح بموضوعية عن مسؤولي النظام السياسي وقوة سلوكياتهم وانضباطهم في الهرمية، وبالتالي ربما نتحدّث عن نظام قد وجد التوليفة المتناسبة التي تراعي الثقافة الشعبية العامة والتي كانت قبل الإسلام في هذه الدولة وعاد القانون الإيراني وكرّسها… وهنا نعرف بأنّ الثقافة العامة هي الحاكم الفعلي والأدب العام العقلاني يلزم الالتزام بهذه الثقافة العامة…

هنا توجب ضرورة الإشارة الى ما اعترف به العلامة الآراكي وهنا تكمن الموضوعية والنقد الذاتي في تفسير الرؤية الإسلامية للسلطة السياسية، فالولاية والحكم أمران متلازمان وهما شيء واحد لا ينفصلان، والسلطة العليا هي الأساس والمرجع وإلاّ ينفرط العقد السياسي والحكم بحسب رأيه.

اليوم سواء توافق البعض مع إيران أو مع نظامها السياسي أو مع سياساتها الإقليمية أم لا، فإنّ الحديث عما يسمّى التمدّد الإيراني في العالم العربي غير مبرّر، فإيران مع فلسطين ومقاومتها، وإذا أراد بعض العرب الاستغناء عن وقوفها إلى جانب فلسطين عليهم أن يتقدّموا الصّفوف لتحرير فلسطين وإنهاء الغطرسة الإستعمارية الغربية التي تشكل «إسرائيل» رأس حربتها، وأن يقيموا نظماً سياسية فيها الحدّ الأدنى من تمثيل الشعب، وأن يقلعوا عن ثقافة البداوة في المحسوبيات والمحاباة والفساد والكثير من الاستبداد والتوجّه لبناء سلطة سياسية تعيد تنمية وتوحيد مجتمعاتها، متّخذة من أنموذج التكامل مع إيران من الناحية العلمية والأكاديمية مثالاً لها في التطوّر التقني الحديث وفي معاداة الكيان الصهيوني الغاصب… ساعتها يحق لهذه المنظومات التذمّر والنقد والانفعال الشخصي الذي هو سمة الأغلبيات العربية… فإيران هي كما هي وكما عرفناها في السياسة والتقدّم والتطوّر التكنولوجي والتنمية والتسليح… فيا بعض الحكام العرب ماذا فعلتم في بلادنا؟

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى