الهايكو العربيّ بين الإيقاع والمسار الدّلاليّ

لارا ملّاك

الهايكو، في أصل تجربته المنطلقة من اليابان، شعرٌ متفرّدٌ ليس من النّاحية الصّوتيّة المقطعيّة، إنّما من ناحية الانطلاق باللّغة الشّعريّة من المحيط المادّيّ إلى الميتافيزيقيا.

وإذا نظرنا إلى الهايكو من إرثنا العربيّ، قد يظنّ بعضهم أنّ المقاربة بينه وبين الشّعر العربيّ التّقليديّ مستحيلة لأنّ طبيعتيهما مختلفتان بشكلٍ جذريّ، لكن هناك في لغتنا العربيّة ما يجعلنا نعيد النّظر.

إذا نظرنا إلى التّقطيع العروضيّ في النّصّ الشّعريّ العربيّ الّذي بُني على القوانين العروضيّة، نرى البيت الواحد مؤلّفًا من مقاطع صوتيّةٍ محدّدةٍ بحسب التّفاعيل، ذلك لأنّ الكلام اللّغويّ يقوم على مقاطع صوتيّةٍ، وهي من حيث النّوع: المقطع القصير، والطّويل، والطّوال. القصير مكوّنٌ من وحدتين صوتيّتين، والطّويل من ثلاثة، أمّا الطّوال فمن أربع. فالتّفعيلة «مستفعلن» مثلًا مؤلّفةٌ من مقطعين صوتيّين من فئة الطّويل، يليهما مقطعٌ قصيرٌ، يليه مقطعٌ طويل. ونستطيع بالملاحظة الصّوتيّة معرفة المقاطع الّتي تتكوّن منها أيّ تفعيلةٍ من أيّ بحر، وتكرار التّفعيلة الواحدة في البيت، كان هدفه خلق الانسجام الموسيقيّ. هذا وقد قدّم الشّعر العربيّ تنوّعًا عجيبًا من حيث التّقطيع هذا، إذ كلّ بحرٍ ينقسم إلى أنواعٍ أيضًا، كالتّامّ والمشطور والمنهوك، ولا ننسى الموشّحات والتّباين الّذي خلقته في المشهد الشّعريّ، ممّا يفتح مجالًا للشّاعر لوضع نصٍّ غنيٍّ موسيقيًّا، خصوصًا أنّ الأحرف العربيّة ذات أجراسٍ متنوّعةٍ تكاد لا تترك مكانًا في المخارج الصّوتيّة إلّا وتستخدمه لتعميق التّعبير. العروض العربيّ إذًا ضبط الاحتمالات الإيقاعيّة ضبطًا محكمًا، كما لحَظَ التّحوّلات الّتي قد تطرأ على الكلام الشّعريّ نظرًا للتّنوّع الكبير في الصّيغ الصّرفيّة العربيّة وإمكانيّة تطوّرها، فأخذ بالحسبان التّغيّرات من تسكينٍ وحذف، وحدّدها ضمن مصطلحاتٍ عروضيّةٍ دقيقةٍ كالزّحافات والعلل المختلفة، منها الوقص والطيّ والقبض… وعلى الرّغم من أهمّيّة العروض التّاريخيّة في الحياة الأدبيّة وفي صقل النّصّ الشّعريّ، لكنّه قيّد الشّاعر وقيّد النّصّ، لأنّه قدّم القصيدة بقالبٍ جاهزٍ ممّا يعيق القدرة على الإبداع والابتكار، فالقانون العروضيّ يحدّد للشّاعر نوع المقطع الصّوتيّ، ويدخل أيضًا في إمكانيّة تحريك الحرف أو عدمه، ممّا يجعل اختيار الصّيغ الصّرفيّة والتّركيبيّة يحصل بناءً على مقاطع التّفعيلة وليس الدّلالة المناسبة أو العاطفة الّتي تتّقد في نفس ناظم القصيدة.

أمّا الهايكو، موضوع حديثنا، فيقوم على المقاطع الصّوتيّة، لكنّه لم يقدّم عربيًّا إضافاتٍ مهمّة من حيث الإيقاع، إذ تبدو جليًّا قدرة القانون العربيّ على ضبط المقاطع وتحديدها حتّى كاد استنفد كلّ الاحتمالات المقطعيّة للكلام، في حين لا يحدّد الهايكو إلّا عدد المقاطع من دون ذكر أنواعها، وكيفيّة ترتيب هذه الأنواع ضمن النّصّ الشّعريّ. وربّما كان هذا السّبب في إدخاله في خانة النّثر من قبل بعض النّقّاد العرب في البداية. فكلّ الكلام اللّغويّ يقوم على التّقطيع الصّوتيّ وذلك ليس شرطًا للشّعريّة. ولا بدّ أنّ أسبابًا مهمّةً أعطت الهايكو هذه المساحة من شعرنا العربيّ، وسنشير هنا إلى خصائص الهايكو لتحديد جزءٍ من هذه الأسباب، وليس ذلك إغفالًا للتّحوّلات الاجتماعيّة المرتبطة بالأدب، أو إلغاءً لدور التّلاقح والانفتاح بين الشّعوب، إنّما لمحاولة تحديد الحاجة إلى هذا التّوجّه في ظلّ الغنى الّذي عرفه النّصّ الشّعريّ العربيّ خلال تاريخه. في هذا الصّدد، نقول إنّ توجّه الشّعراء العرب نحو الهايكو ربّما كان بسبب الحرّيّة الّتي يعطيها في اختيار أنواع المقاطع وترتيبها. وهي حرّيّةٌ لم يجدوها أيضًا في شعر التّفعيلة الّذي اكتفى بإعادة ترتيب التّفاعيل، من دون المسّ بجوهرها وترتيبها من حيث المقاطع الصّوتيّة. والهايكو على الرّغم من هامش الحرّيّة، يحافظ نوعًا ما على الانسجام المقطعيّ. وهذا الانسجام قد يفلت من يد الشّاعر إذا ما أراد كتابة قصيدة النّثر ممّا قد يخلق الارتباك لدى الشّاعر غير القادر على اللّحاق بجماليّة النّصّ بحرّيّة، ليظهر الارتباك في النّصّ أيضًا. من هنا يتطلّب هذا التّفلّت مهاراتٍ لغويّةً استثنائيّة للنّهوض بنصٍّ فيه جماليّاتٌ تعطيه قيمته الأدبيّة. والهايكو لا يترك النّصّ مفتوحًا إيقاعيًّا، في حين أنّ قصيدة النّثر استطاعت أن تترك للمعنى مداه ضمن إيقاعٍ داخليٍّ يتبدّل في كلّ نصّ، ولكن يستطيع القارئ والنّاقد في كلّ مرّةٍ يتلمّس خصائصه ويتذوّق إضافاته.

الهايكو العربيّ، إيقاعًا، يخرج عن النّسق العربيّ القديم، ولكنّه لا يجرّب جديدًا. وهو إذًاً الوقوف بين ضفّتين، ضفّة البقاء على التّقليد الّذي قيّد النّصّ طويلًا عبر العصور، وضفّة الغوص في التّجديد المتفلّت الحرّ الّذي يبتكر كلّ لحظةٍ موسيقاه الجديدة المتغيّرة بحسب الحالة النّفسيّة والرّوحيّة، علمًا أنّ اللّغة قادرةٌ على مجاراة هذه التّغيّرات، وهذا يشمل اللّغة العربيّة أيضًا، شرط أن يستطيع الشّاعر فهم طبيعة اللّغة وطبيعة جماليّاتها البلاغيّة والتّركيبيّة والدّلاليّة، ليتمكّن من ابتكار النّصّ بعفويّة إيقاعه وانسجام مقاطعه من دون العودة إلى قواعد جاهزة.

وربّما لبّى الهايكو حاجتنا إلى الاختزال في النّصّ، وأعطى حرّيّةً نسبيّةً من حيث البنية الإيقاعيّة، لكنّه حدّد البنية الدّلاليّة وقيّدها، لأنّه جعلها في مسارٍ واحدٍ لا حياد عنه. وهو اتّجاهٌ تصاعديٌّ من المحسوس إلى غير المحسوس، ولا ضير في اختيار هذا الاتّجاه عند الحاجة أو الرّغبة، لكنّ اعتماده شرط للشّعريّة يكبّل جناح الشّعر، لأنّه يمنع الشّاعر من النّظر في اتّجاهاتٍ أخرى، كما أنّه يجعل النّصّ الشّعريّ العربيّ بعيدًا من هموم مجتمعه ومن هموم الفرد فيه أيضًا.

فالأنا في الهايكو لا تتدخّل في المشهد إلّا نادرًا، بل توصّفه، ليكون الحوار منسحبًا من الطّبيعة نحو ما هو أعلى منها، أو نحو ما نظنّه السّرّ الكونيّ. وأعتقد أنّ النّصّ العربيّ اليوم يحتاج إلى التّفاعل والتّواصل الإنسانيَّيْن القائمَيْن على الأنا والآخر لإعادة تنظيم الرّؤيا الإنسانيّة في إطارَيها العام والخاصّ، في ظلّ ما يشهده مجتمعنا العربيّ من انسلاخ الأنا عن الأنا وانسلاخ الأنا عن الآخر.

في ضوء ما تقدّم، لا يمكننا أن نقيّد المعنى في اتّجاهٍ واحد، فنحن الّذين لم نستطع أن نقيّد الشّعر بالإيقاع العروضيّ الجامد، كيف لنا أن نقبض على الفكرة ونروّضها ونلجم حركتها؟

ختامًا، أظنّ في هذا السّياق، أنّ شعر الومضة يأتي اليوم استجابةً لهذه النّزعة الإنسانيّة/ الشّعريّة الطّبيعيّة في التّغيير، حيث تكون خصائص الومضة الاختزال وتحرير الفكرة في مداها الإنسانيّ حتّى يأخذ الإيقاع اللّغويّ تلقائيًّا مساحته ضمن اللّغة الشّعريّة، وطبعًا يحتاج ذلك شاعرًا مفكّرًا يمتلك مفاتيح اللّغة، ويجنح بشفافيّةٍ في العاطفة والخيال.

شّاعرة لبنانية – ملتقى الأدب الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى