قصيدة الهايكو شعر الومضة مُقاربة لغوية

أمين الذيب

قد تكون اللغة من أهم الابتكارات الإنسانية على الإطلاق، ليس لكونها أضفت المعالم الوجودية في الوعي الإنساني للظواهر المرئية والملموسة والمتاحة بتحديد رمزيتها وكينونتها وتسميتها كوسائط معرفية عامة تنتظم بها علاقاتنا وتفاهماتنا البشرية، لكن اللغة لم تكتفِ بذلك، إنما تجاوزته للتعبير عم مكنونات الروح والفكر والمُخيّلة بأبعادها الشديدة التعقيد والوضوح في آن وقدرتها على الإجابة عن كل ما هو غامض ومستتر في الحياة والكون والفن. واللغة كأي كائنٍ حي تتطوّر وتبني معالمها الجديدة باستمرار تأثراً بمداركها المعرفية المتحوّلة بتحول طبيعة الإنسان الابتكارية والتجديدية، فحداثتها الدلالية مرتبطة بتحديث الحياة بقيمها ومُثلها العليا وغاياتها وأهدافها. وتكمن خطورة اللغة بقدرتها على التعبير عن المفاهيم الحضارية للشعوب والقوميات فتعبر عن روحيتهم وشعورهم وعواطفهم وطموحاتهم وتقاليدهم بإمكانياتها التعبيرية المباشرة والرمزية في آن. لازمت اللغة الحضارات، ماتت بموتها وتجدّدت وانبعثت وتلاقحت، كلما تجدّدت المفاهيم الحضارية بين الشعوب والأمم. وتُقاس الحضارة أيضاً بمتانة لغتها وغنى وتنوّع مفرداتها وتركيبتها اللغوية وقواعدها ومنطلقاتها ودلالاتها.

أردتُ من هذه المُقاربة أن أُضيء على تجربتين متفاوتتين، كمحاولة لإظهار أوجه التقارب والتباعد في ما بين هذين النوعين الأدبيين، تصويباً لالتباس حاصل على الساحة الشعرية، واختلاط المفاهيم والنظرة التي تدمج بينهما، وكأن شعر الومضة هو امتداد لقصيدة الهايكو، مما يعني أن الشعراء الذين يكتبون بوجهة النظر هذه إنّما يقتبسون شكلاً ومضموناً فلا يُضيفون الى تراثنا الشعري سوى التقليد الخالي من الإبداع، النابع من خصائص مجتمعنا وقضايانا الفكرية والثقافية التي تعبّر عن مكنونات وجداننا القومي وشعورنا بذاتنا الوجودية وما تفيض به نفسية المجتمع من مُثُل عليا وقيم تكتنز الحق والخير والجمال التي تنطبع بها شخصيتنا الحضارية.

لمحة تاريخية عن نشوء قصيدة الهايكو

في القرن الخامس عشر، ظهر في اليابان نمط شعري جديد أطلقوا عليه اسم الرينغا وهو شعر يكتبه عدد من الشعراء شعر جماعي، حيث يضيف المشتركون بالتناوب فيما بينهم 17 مقطعاً لفظياً، 5 7 5، أو 14 مقطعاً 7 7.

بقيت الرينغا حتى بدايات القرن السادس عشر جنساً أدبياً رفيع المستوى، وكان الشعراء يقدّمون قصائدهم معتمدين على جمالية القرون الوسطى، الى أن ظهرت قصيدة الهايكاي بطابعها الهزلي تزاحم قصيدة الرينغا وتتجاوزها، لكنها بقيت في المزاج الشعبي مندمجة باسم هايكاي رينغا وذلك لمحافظتها على الشكل الذي عُرِفت به قصيدة الرينغا، من حيث عدد المقاطع اللفظية. أمّا في المضمون فقد جنح هذا الشعر الجديد الى إدخال الحياة اليومية للناس بتقاليدهم وعاداتهم ومُزاحهم وأمزجتهم، وهذا ما تجاهلته قصيدة الرينغا لاهتمامها بأبعاد الكون وتفسير ظواهره بلغة فلسفية ميتافيزيكية.

من خلال هذه القراءة الموجزة لتاريخ الهايكو، نجد أن هذا النمط الشعري تبلور وتطوّر في عصر إيدو 1603-1867 عندما كانت اليابان تعيش حالة عزلة عن العالم الخارجي، لظروف أملتها أوضاع سياسية واختيارات ثقافية. حينئذ كانت رؤية الياباني للعالم مؤطرة بدورة الحياة الخاصة داخل البلاد، وكان من المتعذر على شعراء اليابان، من داخل قوقعتهم تلك، النظر إلى العالم من منظور غير ياباني. لذلك جاء الشعر تعبيراً عن حساسية اليابانيين تجاه طبيعة بلادهم المباشرة. وهكذا شكلت الكلمة الموسمية الدالة على الفصول مقوماً أساسياً لقصيدة الهايكو الكلاسيكية.

بانتهاء «سياسة العزلة» وانهيار نظام الشوغونة الفيودالي، خاض شعراء عصر تايشو 1912-1926 تجربة جديدة مع العالم الخارجي من جرّاء انخراط بعضهم في الحرب الصينية – اليابانية 1894-1895 ، ثم في الحرب العالمية الثانية. تزامن هذا التحول الجذري، برأي بانيا، مع حاجة الشعراء اليابانيين، ما بعد ثورة ميجي 1868 إلى تحديث الشعر وتدشين بلاغة تلائم الحساسيات الجديدة.

تدرًج الشعر الياباني في مراحل عديدة، وبدأت تظهر معالم التنوّع والتجديد، خاصة على أيدي مجموعة من الشعراء الذين عاصروا تجارب خارجية خاصة أوروبية، حيث تأثروا وأثّروا في مسار التقدّم والتحولات الفكرية التي طرأت.

إن متابعة خصائص الشعر الياباني الغني بإبرازه العلاقة الجدلية بين الإنسان والطبيعة، وبين الإنسان وسلوكه المجتمعي وعاداته وتقاليده وشخصيته الداخلية، وأبعاده الفكرية والفلسفية ونظرته إلى الكون ضمن إيقاع القصيدة الإيقاعية المُقسَّمة الى ثلاثة مقاطع غير متساوية الوزن مثل 5 7 5 في لغة قادرة أن تُعبّر عن وجدان الشعب وهمومه وتطلّعاته مشكّلة رافعة تراثية حضارية تعتمد اللغة بأبعادها الفكرية الجميلة.

وقد أفاد شعراء الهايكو من الحداثة التي صبغت العصر الحديث، فتحرّروا من القيود، أي الطبيعة والفصول والحواس، في محاولة جدّية لنقض الصور النمطية التي كانت الطبيعة كل مصادرها، وهكذا أحدثت القطيعة مع الروح الرومانسية مرتكزة على قوة الأبعاد الرمزية أو السوريالية أو التجريدية.

شعر الومضة:

الشعر كأي شيء حي يتأثر بالأبعاد النفسية والفكرية والحضارية للبيئة التي تشكل الدورة الحياتية بخصوصياتها العاطفية والوجدانية والروحية، ينقلنا الى الزمن الآتي بلحظاته الهاربة من الراهن البليد إلى القادم الحيوي. لقد شكّل الشعر منذ الملاحم والأساطير حالة تساؤلية تهدف الى فكفكة رموز الحياة والكون، مؤسساً بذلك منطلقات النوازع الفلسفية والفكرية لفهم وجودنا وأبعاده وامتداداته، خاصة مسألة الحياة والموت والخلود محاولاً تفسير الظواهر التي طالما كانت ملتبسة وغامضة مما شكل حافز البحث والتنقيب والتفكير، وحافزاً رؤيوياً استدلالياً بحثياً لمعرفة ما خلف الظواهر وما تكتنزه من معانٍ وأسرار وأحجية.

تطوّر الشعر بشكله ومحتواه وانطبع بالمداورة تماهياً مع طبيعة الوجود، وتنوّع بتنوّع مشارب الشعوب ولغاتها، كأنّما هو الروح الوجدانية المعرفية الناظمة لطبيعة مشاعر وخصائص الأقوام وثقافتها التفاعلية أفقياً وعمودياً كشخصية حضارية مستقلة.

شعر الومضة شكّل ركيزة الشعر وفحواه، ففي الملاحم والأساطير السومرية والبابلية والأشورية والكلدانية وما تلاها نجد أن الوامض من الأسطورة هو ما رسخ واستقرّ في الذاكرة التاريخية، وكذلك في القصيدة العمودية ما يُسمّى بيت القصيد أي الوامض في القصيدة. وينطبق هذا الوصف على قصيدة التفعيلة والنثرية أيضاً حيث لا يبقى في الذاكرة إلا ما طال الروح والشغف والإدهاش، بينما شعر الهايكو في أقصى تجلياته لا يتعدّى شخصية الأمثال الشعبية لخوائه من الشعر كأن يقول بائع الفحم في ليلة باردة مات من الصقيع، بينما تستدير الومضة بهذا البعد، كلما رسمتكِ في بالي، شجرة، تأتي العصافير الى عبابكِ، نشيد سوريالي، أصمتُ كي لا تجفل العصافير.

فللومضة هنا وظيفة انفعالية تولِّد استطراداً وظيفة تنبيهية لدى المتلقي تصل الى لحظة الإدهاش، وأجمل ما يميّز الومضة نهايتها الخاطفة التي تبلغ ذروة الختام التي تبلور الرؤيا الشعرية فهي بانزياحاتها واستعمالها المغاير للغة ودفعها حتى تصل الى توليد اللامنتظَر من المنتظِر لامتلاكها النظام اللغوي الذي يجسّد النظام المعنوي لدى الشاعر الذي لامس جدلية الحياة من خلال ثنائية الممكن والمستحيل، فالومضة شكل من أشكال الانزياح الذي يباغت المتلقي بقدرته على إبراز الوظيفة الأسلوبية، الومضة، التي تظهر أدقّ تشعبات الفكر وانخطافاته لبلوغ المعنى بكثافة شديدة واختصار في اللغة كي تنبعث المعاني والصور في ذهن المتلقي وكأنها شريط سينمائي ذهني قد يستمرّ ويتوالد كخصوبة توالدية تشكلها الومضة عند المتلقي الراهن والمستقبلي.

أحاول هنا أن أقدّم دراسة موضوعية، مرتكزة على وقائع وحيثيات جلية وواضحة أثبتتها التجارب لعديد من الشعراء المشرقيين أكان في عمان أو فلسطين أو سورية، خاصة الذين شكلوا مواقع ومنتديات بمسمّيات الهايكو، فقد بدا لهم بالتجربة أن اللغة العربية غير قادرة بإيقاعها على إنتاج قصيدة الهايكو بقدر ما يمكن اقتباسها، والاقتباس غير قادر على الإبداع والإضافة، أن حيوية اللغة تنبع من حضارة شعوبها. ومن ناحية أدهى أن قصيدة الهايكو عندما انطلقت خارج مداها اللغوي واحتكت بالثقافات المغايرة وجدت أن التطوير حاجة شديدة الإلحاح للتعبير عن قضايا المجتمعات والإنسانية بشكل أوسع. فوجدت ووجد أتباعها من العرب والمشرقيين أن شعر الومضة الممتد تاريخياً الى العصر السومري، يفترق افتراقاً جوهرياً بالشكل والمضمون عن الهايكو التي حسمت إيقاعها، بينما لا زال شعر الومضة متحرّراً من القيود ومن الشكل لكونه حركة تجديدية تجاوزية تعتمد الإيجاز في اللغة المُكتنزة بالمعنى الذي يُدهش المتلقي أمام المشهد السينمائي الذي قدّمه شعر الومضة. هذه دعوة مفتوحة للحوار لنُرسي مفاهيم شعرية أدبية نابعة من روحية مجتمعنا وحضارتنا وإن ملتقى الأدب الوجيز كحركة تجاوزية نقدية الذي تأسس ويستكمل تأسيسه في المشرق والمغرب العربيين وتالياً في العالم العربي يؤكد أهمية التحاور حتى ولو كان الحوار على صفحات الجرائد، فإننا في لبنان وجريدة البناء اللبنانية مستعدّون لنشر أي حوار ينشأ بيننا.

ناقد وشاعر – ملتقى الأدب الوجيز.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى