لماذا أجواء لبنان ومياهه مباحة لـ «إسرائيل»؟

د. وفيق إبراهيم

إقفال أجواء سورية بـ»القوة» أمام الغارات الإسرائيلية بالتصدّي السوري لها، يثير ملف انتهاكات الكيان الغاصب أجواء لبنان بشكل متواصل منذ ستة عقود تقريباً. كما يفتح ملف مياهه الإقليمية التي تخترقها البوارج الإسرائيلية المستندة إلى تفوقها البحري، وتتلاعب بالحدود البحرية لفلسطين المحتلة مع لبنان، بخلفية السطو على آبار الغاز الوفيرة في تلك الأنحاء التابعة للبنان. فلماذا تردع سورية اختراق «إسرائيل» أجواءها ويعجز لبنان؟ وكيف السبيل إلى بناء ردع فاعل؟ للإشارة فـ »إسرائيل» تنتهك أجواءنا لسببين: كانت تضرب أهدافاً لبنانية، وتستعملها اليوم لتقصف من خلالها أهدافاً في سورية بعد إقفال السلاح الجوي السوري أجواء بلاده في وجهها. وهذا لأنّ الامتناع الرسمي اللبناني عن التصدّي لها حوّل سماء لبنان منصة للاستعمال في أيّ وقت تريده «إسرائيل» وعلى أيّ هدف تختاره. أما لماذا لا تستهدف حزب الله في لبنان وتستهدفه في سورية، فلتيقّنها من أنّ الحزب لديه أولويات في سورية لقتال الإرهاب، لكنه لن يتوانى عن استعمال صواريخه في قصف الكيان المحتل إذا تجرأ على الاعتداء على مواقعه في لبنان.

لا بدّ هنا، من العودة إلى 2006، عندما أصاب صاروخ لحزب الله بارجة «إسرائيلية» كانت تختال كعادتها أمام سواحل لبنان. وهذا تاريخ يجب أن لا ينساه أحد، لأنه أسّس إلى اختفاء البوارج «الإسرائيلية» من مياهنا الإقليمية، إنما من دون أن يُنهي خطرها نهائياً، لعدم وجود سلاح بحري لبناني موازٍ.

إلى ماذا يحتاج قرار لبناني بالتصدّي لانتهاكات «إسرائيل» الجوية؟

يحتاج إلى سياسة وسلاح ولا ثالث لهما.

لجهة السياسة، فتتعلق بموقف داخلي يؤمّن ما يشبه إجماع القوى السياسية، باعتبار «إسرائيل» عدواً أساسياً للبنان. وهذا أمر شائك وحمّال أوجه. لكن القوى الداخلية بتعدّد ولاءاتها الإقليمية والدولية تميل حيث تكون: فهل من يصدّق أنّ قسماً من هذه القوى ساند الاجتياح «الإسرائيلي» للبنان عام 1982 مقتحماً على متن دباباتها العاصمة بيروت؟ وهل هناك من ينفي أنّ التقارب السعودي «الإسرائيلي» أصبح راسخاً وبدأ ينسحب على قوى داخلية في لبنان، لا تزال معادية لـ »إسرائيل» إعلامياً فقط، تتبنّى سياسة داخلية تصبّ في مصلحة الكيان الغاصب والدليل موجود في جموحها المفرط لاستعداء القوى المعادية لـ »إسرائيل».

لقد أصبح العداء المفرط لـ »إسرائيل» في لبنان خطاباً إعلامياً «فولكلورياً» مثيراً للسخرية. فكيف يمكن استعداء سورية ومقاطعتها وهي التي تتعرّض يومياً لاعتداءات إسرائيلية أميركية إرهابية تتموّل من الخليج؟ وهنا يكمن السبب… إنه الخليج الذي ترتبط به هذه القوى الداخلية تمويلياً. ونضيف أسباباً مذهبية مختلفة… ألا ينتمي الفلسطينيون إلى الإسلام والسوريون أيضاً؟

وهكذا يتبيّن أنّ نقصاً في السياسة الداخلية والإقليمية يحتاج إلى قرار التصدي للانتهاكات «الإسرائيلية». فكيف يمكن إذاً تأمين الإجماع الوطني حول هذه القضية الوطنية؟ هناك عاملان إيجابيان: الأوّل أنّ الحكم الحالي على مستوى رئاسة الجمهورية وطني الاتجاه ولديه صلاحيات الطلب من الجيش التصدي للانتهاكات الجوية والبحرية بحكم كونه القائد الأعلى للقوات المسلحة، أيّ أنّ الجيش يستطيع مزاولة مهمة الدفاع عن أراضي الوطن وأجوائه في الحالات المفاجئة. وهذا يعني أنه ليس مضطراً لانتظار قرار من مجلس الوزراء، لأنه عمل يحتاج إلى السرعة في التصدي ولا يندرج في إطار إعلان الحرب.

بأيّ حال، تنسّق رئاسة الجمهورية مع مجلس الوزراء دستورياً، وتشاور القوى الكبرى سياسياً. علماً أنّ أكثر من نصف القوى الداخلية مؤيد لمجابهة «إسرائيل». فإلى جانب حزب الله، المجاهد الرئيسي، هناك التيار الوطني الحر وحركة أمل والقوى الوطنية والقومية والنواب السنة والمسيحيون المستقلون والدروز، أيّ هناك غالبية لبنانية مستعدة لقتال «إسرائيل» في أجواء لبنان ومياهه. ما يعطي رئاسة الجمهورية حرية حركة في هذا المضمار لا سيما أنّ الرئيس عون قائد سابق للجيش يتميّز بعصبيته العسكرية الحريصة على كرامة الوطن وعسكريّيه. بيد أنّ هناك جانباً آخر من السياسة وهو القسم المتعلق بالإقليم والتحالفات. وهنا للبنان الرأي الأساسي، لأنه لا يحق للخليج مثلاً في إطار استعدائه إيران أن يطلب من لبنان الامتناع عن ردع الانتهاكات «الإسرائيلية» لأجوائه ومياهه.

كما أنّ الجانب الأميركي الأوروبي لن يذهب إلى حدود الموقف العلني الذي يطلب من لبنان تجاهل الانتهاكات «الإسرائيلية»، ولديه أنواع أخرى من الضغوط، تستعمل وسيلتين لامتناع لبنان عن التجهّز بسلاح مناسب للردع. ومنعه من شرائه من مصادر أخرى، على قاعدة إعلان الغرب حرصه على سيادة لبنان.

على مستوى السلاح المناسب فلا يوجد في لبنان سلاح دفاع جوي قادر على الردع المسبق للانتهاكات «الإسرائيلية». وليس لديه أيضاً ما يردع «إسرائيل» بحرياً. فلبنان يمتلك قوارب لردع مخالفات الصيادين والمتسلّلين بحراً إليه ومنه وليس أكثر..

فكيف السبيل إلى سلاح رادع في ظلّ الموانع الغربية والرفض الخليجي المتنكّر برفض التمويل؟ ألم يسبق للسعودية أن قدّمت 3 مليارات دولار هبة مساعدة وتسليح للبنان، وتمنّعت عن دفعها وألغتها لأسباب لم تتجرّأ عن البوح بها. وهذا يؤكد أنّ للأسباب «الإسرائيلية» علاقة بها.

فهل بوسع لبنان اتخاذ قرار سياسي بالتوجّه نحو دول أخرى لشراء السلاح الرادع؟ فتظهر على الفور صورة روسيا الجاهزة لتقديم سلاح على شكل هدايا أو بأسعار رمزية قابلة للسداد على مدة طويلة.

وهذا يتطلّب مجلس وزراء لبناني يوافق على هذا السلاح، بما يردّنا على الحبكة السياسية، لأنّ مجلس وزراء يترأسه سياسي موالٍ للسعودية لن يسمح بتمرير مثل هذا القرار بأية وسيلة.

ولن يقبل بأسلحة من إيران تكفي لتغطية سياسات الردع اللبنانية وعلى سبيل الهدية.. وهذا القبول لا يمرّ إلا بتفجير محتمل لمجلس الوزراء.

وهكذا يتّضح أنّ المشكلة في لبنان سياسية صرفة ترتبط برفض أميركي سعودي لأيّ ردع لبناني لغارات «إسرائيلية» تستهدف الدولة السورية وحزب الله في سورية.. ولبنان أيضاً.

يتضح أنّ ظروف الانقسام الداخلي تشجّع على استباحة «إسرائيل» أجواءنا، وتقدّم لها بحرنا وخصوصاً عند حدوده مع فلسطين المحتلة، حيث المكامن الغنية بالغاز في البحر المتوسط.

والدليل أنّ «إسرائيل» بدأت بالاستثمار فيه والقيادة السياسية اللبنانية تتلهّى بخلافات على الحصص والمواقع والحقائب، كما يشتمل الاستثمار «الإسرائيلي» بالقرب من حدودنا البحرية. مكامن هي من حق لبنان وتسطو عليها «إسرائيل» بقوّتها البحرية. الأمر الذي يدفع إلى التساؤل: لماذا لم تعُد «إسرائيل» تنتهك البرّ اللبناني؟ الجوب واضح وموجود في نجاح حزب الله في إلحاق هزيمتين بقوات برية «إسرائيلية» كانت تحتلّ لبنان وانهزمت في العام 2000 فرحلت، وحاولت العودة العام 2006، ولقنها حزب الله درساً بليغاً. ومنذ ذلك التاريخ توقفت «إسرائيل» عن غزو البرّ اللبناني، واتجهت نحو الانتهاكات الجوية بشكل يومي، مع بعض الخروقات البحرية القليلة.

ألا تستدعي هذه الوقفات التاريخية الجسورة لحزب الله محاكاة الدولة اللبنانية لها بالتعالي على الانقسامات الداخلية لمصلحة الاستقرار اللبناني من جهة، وتكريس حقنا في استثمار ثرواتنا بما يدعم الاستقرار الاقتصادي من جهة ثانية.

وبما أنه يستحيل بناء موقف سياسي عسكري من قوى داخلية شديدة التناقض، فلا حق لأحد بالاعتراض على دور إضافي لحزب الله يتصدّى فيه للاختراقات «الإسرائيلية» الجوية والبحرية. أيّ تماماً كما فعل في 1982 عندما وجد أنّ الانقسام اللبناني ترك الجنوب محتلاً من قبل «إسرائيل»، حتى أنّ هناك قوى داخلية كانت تستعملها «إسرائيل» قوات حداد ولحد في الجنوب والكتائب في بيروت في الأعمال العسكرية والسياسية في ذلك الوقت، لذلك فإنّ القسم الأكبر من اللبنانيين يعتبر أنّ حزب الله هو الجهة الوحيدة القادرة عسكرياً وسياسياً على مجابهة العدو «الإسرائيلي» في لبنان بجبهاته الثلاث، البر والبحر والجو، بما يمنع كلّ الجهات الداخلية من حق الاعتراض على أدواره التي تشكل حاجة موضوعية لسدّ سقطات نظام سياسي فاشل لا تعنيه إلا مصالحه وعلى حساب أمن اللبنانيين وأهمية ثرواتهم المتبخرة بالسطو «الإسرائيلي» على الغاز من ناحية وعلى السرقة الداخلية لإمكاناته الاقتصادية من ناحية ثانية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى