النصّ المثقف… حامله الذات الحكيمة!

لوريس فرح

منذ مطالع الصفحات الأولى لي مع الرواية وجدتني قد شددت إليها، رواية تغوص بفطرية العقل البشري بشكل مباشر متخفّفة عن طريق متابعتنا ليوري بطلها الذي وباعتقادي يتصرّف عن فطرة كامنة، قد دفناها فينا كبشر داهمتهم الحضارة والتكنولوجيا على حين غرة، مما جعلنا نفقد بوصلة البساطة والطبيعة التي جُبلنا عليها.. في رواية الأديب اللبناني عبد الحليم حمود، «يوري إله السمكة السوداء» الصادرة عن منشورات «حواس» الجمعية الثقافية الاجتماعية اللبنانية، نعاين عن كثب واضح جداً ان الكاتب على قدر واسع من الثقافة والإلمام بالأدب والغربي منه على وجه التحديد. هذا وقد عمل على توظيف معرفته تلك وتطويعها لصالح نصه بطريقة تُرفع لها القبعة كما يُقال…

فلم أتلمس بأن تلك المعلومات التي زجّت في كينونة النص قد أتت مجرد حشو، كما كثير من الأعمال التي تطرح حالياً، والتي أشي بأن ما تكنهه ما هو إلا عرض عضلات لا أكثر، تحت بدعة تثقيف النص الروائي بزجّ مقولات وعبارات المراد الحقيقي فكرة الترويج الإعلان والذي يزيح النص عن ماهية جوهره إلى لوحة إعلانية غاوية بسلطة الضوء لا المضمون.. لكن هنا كانت الحكاية مختلفة تماماً فكل الشواهد والإسقاطات التي مرت في الرواية، قد خدمت وأغنت المعنى تماماً، وهو ما زاد العمل قوة وأصالة.. فهذا لم يكن عبثياً، فمرده للمخزون المعرفي المكتنز للكاتب، والذي يُدلي هذا على انفتاحه على علوم الطاقة وكيفية ربطها بطريقة بارعة مع العلوم الروحانية وتقديمها بإطار هذه الشخصية الفريدة من نوعها..

وهذا ما دفعني، وتلك من الحالات النادرة، لأجلس جلسة مطوّلة واحدة لأنهي قراءة الرواية، لشدة ما أسرتني شخصية بطلها «يوري» الحكيم، التي استحضرت بي كل نزواتي ومكبوتات روحي ما فعلت منها وما لم أمتلك الجرأة على فعله.. لأخلص بالقول إلى أن الرواية تخاطب ذواتنا بالدرجة الأولى والأخيرة… و»يوري» كان يتكلم بلسان حال الكثير ممن لا قدرة لهم أو ممن لا يمتلكون الجرأة على الكلام أو الفعل أو حتى على الإقدام على أبسط تجربة من التجارب التي أقدم عليها بطل الرواية..

ما استوقفني في الرواية أن الكاتب أقحم ما يقارب الخمس عشرة صفحة، استسهب فيها بالحديث عن «مايا» المريدة الأولى للحكيم والتي وإن كان لها دور فاعل في الأحداث إلا أنه لم يصل إلى عتبة هذه المناجاة المطولة عنها، حيث زجّت تلك الرسائل في مكان بالنص لم أجد أنها تناسبه.. حيث إنه لم يعطِ انطباعاّ أنها أخذت هذا الحيز الكبير من قلبه بالفعل، طيلة أحداث الرواية لنفاجأ بهذا الكمّ من سيل العواطف التي انهمرت على حين فجأة أمامنا.. هذا.. وإن كان ولا بدّ من ذكرها، فكان من الأجمل والأجدر لو أنها ذكرت في آخر الرواية، حيث إنه مكانها المناسب أكثر من حيث توافقها مع الأحداث، ولكن.. وعلى الرغم من طولها وعدم وجود مناسبة مقنعة لها إلا أنها مناجاة قوية جميلة أظهرت الجانب الأدبي المبدع لدى الكاتب، بعد أن كان جانب الفلسفة والتبحر بعوالم النفس البشرية قد أخذ مأخذه في العمل..، لم يكن في الرواية مقدمة وذروة وخاتمة بقدر ما كان تسلسلها منطقياً متواتر الدرجات يليق بشخصية «يوري».. هذا الرجل الذي لم يترك شيئاً من المشاعر البشرية لم يحاول تجريبه.. ولا تستطيع الجزم للحظة الأخيرة بسلامة عقله أم بالتسليم بجنونه.. فهو وعلى الرغم من أنه يظهر على هيئة مجنون، أزعم بأنه أراد الدخول ولو مدعياً إلى مقام الحكمة من هذا الباب، مع التسليم بأننا لن نستطيع أن ننكر عليه ملكة اكتسابه للفكر المعرفي وهو ما لا يملكه شخص طبيعي.. لكنها العبثية التي اشتغل عليها كي لا يسلم خيوطه للغير، وأقصد هنا عبثيته الشرهة اللامحدودة للتجربة بعينها وحتى الخطير والمصيري منها، أوقعه في شركه هو وهو ما قد أفقده البريق في موضع ما، البريق ذاته الذي كان محرّكه الرئيس للمتعة التي يعيش على وجودها في تصرفاته، والتي كانت قادرة أيضاً إلى إيصاله بما يكتنف ويكتنز من معارف وتجارب إلى مصاف الحكمة!

كاتبة سورية/ فيينا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى