الاستدارة التركية في قمة سوتشي اضطرار أم اختيار؟

مهران نزار غطروف

ترجمت قمة سوتشي الأخيرة في 17 من سبتمبر/ أيلول الحالي مقولة إنّ السياسة «فن الممكن» بكامل معانيها، هذه القمة التي ما كان لأحد أن يتنبّأ بما نتج عنها من خيارات سياسية، عملت على تأجيل المعركة الإستراتيجية الأهمّ في الحرب السورية إدلب ، خاصة بعد قمة طهران الثلاثية الأخيرة في السابع من سبتمبر/ أيلول الحالي، وكلّ ما تبعها ونتج عنها من إرهاصات وأجواء، كثيرين رأوا فيها أنها الحرب لا محالة. فقد خرج الرئيس الروسي ونظيره التركي من هذه القمة، بالاتفاق الذي بات معروفاً للجميع، والمتضمّن للصيغة القائلة بإنشاء منطقة منزوعة السلاح في إدلب، بين مناطق الجيش السوري والمسلحين، بحدود أفقية وطولية وزمنية مشروطة، سرعان ما لاقى ترحيباً مباشراً من دمشق، عبر بيان صدر عن خارجيتها في اليوم التالي لإعلان الاتفاق، موضحاً أنّ هذا الاتفاق جاء نتيجة «مشاورات مكثفة» بينها وبين موسكو، وبأنّ الاتفاق « مؤطر زمنياً بتواقيت محدّدة»، ثم أعقب ذلك، ترحيب آخر من طهران، على لسان المتحدث باسم الخارجية الإيرانية بهرام قاسمي، موضحاً أنه «خطوة مهمة وأساسية في القضاء على فلول الإرهابيين في سورية».

هذا الاتفاق الذي على ما يبدو قطع الطريق، وسحب الذرائع من أميركا وشركائها الغربيين، فيما دأبوا عليه في الأسابيع الماضية، من العمل على إعادة تعويم «نغمة» استخدام الأسلحة «الكيمائية» من قبل «النظام السوري» في إدلب حسب زعمهم…!

في الواقع، الكثيرون رأوا أنّ التركي لن يصمد أمام هذا الاتفاق، وكيف له ذلك! وهو المجرّب والفاشل أكثر من مرة، في تنفيذ الاتفاقات السابقة، في ما يخصّ تطبيق مخرجات أستانة، والالتزام بنقاط خفض التصعيد، وهو الذي فتح حدوده للعناصر المسلحة، من النصرة وأخواتها للدخول للأراضي السورية، فلماذا يفي ويلتزم بتنفيذ هذا الاتفاق، ولماذا يصرّ الروسي والإيراني، على شراكة التركي واحتوائه، أقلها بصيغة حليف مؤقت، وليس عدواً دائماً؟ بداية للإجابة عن هكذا تساؤل، يجب فهم الحالة العامة التي يعيشها التركي اليوم، وهي:

أولاً: السقوط المدوّي لمشروعه الأخواني الكبير، وحلمه في إعادة إحياء زمن الخلافة، عبر «الصلاة في الجامع الأموي في دمشق».

ثانياً: المسألة الكردية، والرهاب الذي يعيشه جراء عدم تحقيق مراده في القضاء على الحلم الكردي الانفصالي، المدعوم من حليفه الأميركي، والذي لا يزال يستثمر فيه، في الشرق والشمال السوريين.

ثالثاً: الانهيار الذي أصاب الليرة التركية مؤخراً، وما رافق ذلك من تداعيات نتيجة التوتر الذي شاب العلاقة مع واشنطن، وآلية التعاطي التي انتهجتها الأخيرة ضدّه، من إجراءات سياسية واقتصادية رداً على قضية احتجاز القس آندرو برونسون في أنقرة.

رابعاً: وهو الأهمّ، معاناته الحقيقة من وجود عشرات الآلاف من أخطر العناصر الإرهابية الذين أفرزتهم الحرب السورية، والذين نجحت الدولة السورية في تجميعهم في إدلب، المتاخمة لحدوده الجنوبية الغربية، للاستفادة منهم في مثل هذه الأوقات، ربما.

هذه العوامل وغيرها، وضعت التركي اليوم في موقف لا يُحسد عليه، فهو أمام خيارين لا ثالث لهما: إما البقاء في المعسكر الغربي، والتبعية المطلقة للأميركي الباحث لنفسه عن مخارج من هذه الحرب، وما يرتب ذلك على التركي من إمكانية المواجهة المباشرة مع الدولة السورية، ومن خلفها حلفائها الروسي والإيراني. وإما القبول بالصيغة الروسية الإيرانية، التي شكلت أستانة حجر أساسها، وصولاً لقمة سوتشي الأخيرة، والاتفاق المعلن عنها، والذي جاء على حدّ تعبير أردوغان نفسه: «انطلاقاً من احترام مصالحنا، ضمن روح اتفاقيات أستانة».

الأمر الذي يعني أنّ كلاً من الروسي والإيراني، حققا سبقاً في ذلك، من حيث القدرة على تطويعه، ولو أنّ هذه الاستدارة كانت بالنسبة له اضطراراً وليست خياراً. فالمناورة القائمة والمستمرة منذ ما بعد تحرير حلب بين كلّ من المعسكرين المتحاربين، لم تكن لغاية اللعب مع التركي أو ضدّه، وإنما في الواقع هي لغاية اللعب عليه وعلى اصطفافه.

التعاطي الرسمي التركي مع الاتفاق الأخير، وكلّ ما أعقبه من تطوّرات، والتي كان أهمّها الغارات «الإسرائيلية» على مدينة اللاذقية السورية، عشية إعلان الاتفاق الآنف الذكر، والتي أسقطت فيها الطائرة الروسية «إيل- 20»، يفسّر الرغبة الملحة لدى التركي، للحفاظ على تطبيق هذا الاتفاق، بكلّ السبل الممكنة، ويوضح صوابية القراءة الإستراتيجية الروسية الإيرانية، لما آلت إليه الحالة التركية الراهنة.

ظهر ذلك في جملة تصريحات رسمية بدأها ياسين أقطاي، مستشار الرئيس التركي للعلاقات الخارجية، لوكالة سبوتنيك الروسية في 19 سبتمبر/ أيلول الجاري، حيث ألقى اللوم على «إسرائيل»، كونها تريد «تخريب الجو الإيجابي» الذي ظهر بعد اتفاق سوتشي، موضحا أنّ «إضعاف» سورية وزعزعة استقرارها هو من «أولويات إسرائيل»، فهي تريد «استمرار الحرب» كي لا تبقى في جوارها «دولة قوية».

أما المتحدث باسم الرئاسة التركية إبراهيم كالن، وفي مؤتمر صحافي عقد بالمجمع الرئاسي في أنقرة، بتاريخ 21 سبتمبر/ أيلول، شدّد على أنّ تركيا لن تسمح «بعرقلة» تنفيذ اتفاق إدلب، وأنها سوف تستخدم كلّ «الطرق المتاحة» من أجل تنفيذه.

في المحصلة، نعتقد أنّ التوصيف الحقيقي والأدقّ لهذا الاتفاق، جاء على لسان سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسي خلال مؤتمر صحافي جمعه مع نظيره وزير خارجية البوسنة والهرسك بتاريخ 21 سبتمبر/ أيلول، واصفاً إياه بأنه «خطوة مرحلية». وهو بمنحى أو بآخر، يجسّد ترجمة حقيقية لانتصار فائض القوة، الذي راكمته الدولة السورية مع حلفائها خلال هذه الحرب.

فإدلب تكسب الآن بالمعركة السياسية، التي طالما فضلتها وانتهجتها القيادة السورية والحلفاء، منــذ بداية هذه الحرب، وأما المعركة العسكرية فهي الخيار الأخير، الذي لا نعتقد أنّ أحداً يجرؤ على جسّ نبض القيادة السوريــة فيه مجدّداً…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى