بين روسيا و«إسرائيل» أكثر من ردّ على »خطيئة»

روزانا رمّال

لم يعُد الأمر يتعلق بردّ روسي عسكري او انفعال يُحسَب لجهة استرداد هالة الجيش الروسي في سورية، بقدر ما وضعت الأمور فوق الطاولة بكل ما لها وما عليها وبقدر انفلاش الملفات والجهوزية لتغيير اللعبة السياسية بين روسيا و«إسرائيل» التي لم تكن بوارد الوصول الى ما لا تحمد عقباه في العلاقة بين الطرفين. وعلى هذا الاساس يمكن اعادة قراءة بعض المحطات السياسية الاساسية ودراسة شكل العلاقة الروسية الإسرائيلية والروسية الأميركية للتوصل الى الخلاصات الواضحة التي طرأت في الساعات الماضية.

ظهرت روسيا بالأشهر الماضية موضع تشكيك واضح من قبل قاعدة حلفائها التي رأت في سياستها سياسة تمرير مصالح بدل حماية المصلحة السورية واعتبارها فوق أي حساب كيف بالحال والحساب سيادي بامتياز بما يتعلق بالطلعات الجوية »الإسرائيلية» والقصف فوق أهداف داخل الأرض السورية..

لكن المشهد الذي سعت روسيا الى تكريسه والذي سعت «إسرائيل» الى اعتباره مكسباً في ظل التفوق الإيراني السوري هو دور »الوسيط» الذي يمكن «إسرائيل» من تنفيذ مصالحها بعد التسويات الاخيرة والذي يعطيها إمكانية التفاوض مع وسيط جيد وموثوق بالنسبة إليها وهو روسيا، بدلاً عن سورية وإيران اللتين تعتبران عدويها التاريخيين. وقد نجحت روسيا بهذا الدور ونجحت «إسرائيل» الى حد ما بالالتزام في ما يتعلق بالوجود الروسي المباشر ومصالحها المباشرة على الأرض السورية حتى لحظة الانفجار الكبير وإسقاط الطائرة الروسية بنيران صديقة أتت عن طريق الخطأ السوري، لكنها بالواقع »الخطيئة» الإسرائيلية.

الخطيئة بعدم التنسيق في الطلعات الجوية العسكرية وتنفيذ الضربات بدون الالتفات الى مصالح أصدقائها الروس. هو الشعرة التي قصمت ظهر البعير اليوم، لكن الخطيئة أدّت الى جزاء كبير وغير متوقع. وهو أبعد من رد فعل أو إجراءات عقابية يتخذها بوتين تدريجياً من نهار أمس ألا وهي »فقدان الثقة».

هذه الثقة هي ثقة روسيا التي خسرتها «إسرائيل» ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية التي عملت بجدية باتجاه التعاطي مع الأمر الواقع الروسي في المنطقة وتقدّمه في سورية باتجاه قناعة مفادها استخدام هذا الوجود كوسيط يحمي مصالح «إسرائيل» بالحد الأدنى ويضمن عدم عودة أي قوات موالية لإيران الى الحدود من جهة، والالتفات الى مصالح «إسرائيل» العليا في أي مفاوضات نهائية للحل واعتبارها صديقة لـ»إسرائيل» قادرة على فض اي نزاع او اشتباك او التدخل لتهدئته بين الأطراف المتنازعة بالمنطقة، حتى أن روسيا ذهبت أبعد من ذلك بعدم تصعيدها بعد أي طلعة جوية إسرائيلية او اعتداء ضد اهداف في سورية، لكن كل هذا انتهى بوقوع «إسرائيل» بالخط الأحمر الذي عنى هذه المرة انتهاك سيادة روسيا وكرامة ومهابة جيشها، إضافة الى وقوع ضحايا لا يمكن لبوتين تقديمهم على مذبح الوطن أمام رأي عام روسي قادر على المحاسبة، واعتبار سورية مستنقعاً روسياً، كما برزت اصوات معارضة لدخول قواته بالعملية العسكرية في بداياتها آخر ايلول 2015 أي منذ 3 سنوات.

اسقاط الطائرة الروسية من قبل تركيا ترك أثراً بليغاً، ومعها تصرفات عقابية مباشرة وقطيعة حتى الأمس القريب. وهي مؤشر جدي على ان روسيا مستعدّة للتضحية بعلاقاتها مع دول إقليمية بارزة حفاظاً على مهابة حضورها وتفوقها من جهة، وكي لا تتكرر هذه الانتهاكات بحقها من جهة أخرى.

يقول مصدر مقرّب من القيادة السورية لـ »البناء» إنّ »الموقف الروسي تجاه «إسرائيل» اليوم تدهور إلى أدنى مستوياته منذ تأسيس الكيان الإسرائيلي واعتراف الاتحاد السوفياتي المبكر بقيامه وبمصالحه. إنّ ما يجري اليوم هو فصل جديد من فصول العلاقة الروسية »الإسرائيلية». أما الرهان الكبير على عدم قدرة روسيا تخطي اللوبي اليهودي في الداخل، فقد سقط اليوم بسقوط دماء الجيش الروسي على الأرض السورية، بسبب العنجهية »الإسرائيلية» وسوء التنسيق المفتعل الذي قرأت فيه روسيا رسالة تفيد بأنها لن تعلو عن الحضور الإسرائيلي مهما كرّست وجودها في سورية، وبأنها لن تكون سوى داعم للمصلحة الإسرائيلية. وهذا أهم بكثير من ذلك اللوبي. فالمبادئ الكبرى تحكم العقيدة الروسية ودماء الجندي الروسي لا يمكن المساومة عليها من أجل مصلحة إسرائيلية من هنا وغارة من هناك، لأن الدول الكبرى تحرص على صورتها وهالتها فوق اي اعتبار».

الطلعة الجوية المفتعلة اذاً رسالة إسرائيلية تفيد بأن تل أبيب لا تقيم وزناً للحضور الروسي الذي لم يتقدم نحو أي إجراء عقابي مع تكثيف الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي السورية مؤخراً، ومع سكوت روسيا اعتبرت «إسرائيل» ذلك عجزاً أو ضوءاً أخضر. هذا الضوء الذي تحوّل أحمر في ليلة قاسية على تل أبيب بإعلان الرئيس الروسي النية بتسليم روسيا دفاعات الـ»اس 300» التي كانت قد أجلت موسكو تسليمها عملاً بمطالب إسرائيلية مكثفة عبر زيارات عدة قام بها نتنياهو ومسؤولون إسرائيليون أبرزهم الرئيس رؤوفين ريفلين، لكن السؤال الأهم صار حول الجنوب السوري الذي طرحت روسيا نفسها فيه وسيطاً قادراً على فض النزاع وربط المصالح وتهدئة الأجواء بدون حرب او عملية عسكرية تعيد الوضع السابق لما هو عليه. الجنوب السوري والوساطة الروسية والطلعات الجوية كلها صارت ضمن عداد الملفات الضائعة وعلى «إسرائيل» اليوم إعادة النظر جيداً بالتصعيد الروسي الذي فتح الجبهات على الاحتمالات كافة!

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى