كلفة السياسة على الاقتصاد

ناصر قنديل

– أربعة نماذج أمامنا تكفي لقراءة كلفة السياسة على الاقتصاد بطريقة تجعل الفقر والعوز والركود من جهة وارتفاع الأسعار وتفشي الفساد وارتفاع المديونية من جهة أخرى، سمات الاقتصاد العالمي والإقليمي واللبناني. فما يعيشه الاقتصاد الأوروبي جراء العقوبات الأميركية على روسيا وإيران تتحدث عنه بالأرقام الدوريات الأوروبية المتخصصة، حيث يشكل السوق الروسي سوقاً للاستثمار والتصدير لكبريات الشركات الأوروبية، وكانت إيران بعد التفاهم على ملفها النووي فرصة واعدة تسابقت إليها الشركات الأوروبية. وجاءت العقوبات الأميركية على تركيا ضربة أميركية ثالثة على الرأس الأوروبي. ووصل الأمر إلى حدّ قول المستشارة الألمانية إنّ العقوبات الأميركية على روسيا وإيران تكاد تكون عقوبات مباشرة على أوروبا وشركاتها، بينما على المقلب الآخر من العالم إجراءات حرب تجارية أميركية بحق الصين سينتج عنها في حال نجاحها وقف النمو الاقتصادي الصيني والتسبّب بأزمة معيشية لبلد المليار ونصف المليار نسمة، وفي حال فشلها ستتسبّب برفع الأسعار في سوق السلع الاستهلاكية العالمية، التي تشكّل السلع الصينية الرخيصة فيها متنفساً للفقراء على مساحة العالم.

– النموذج الثاني يقدّمه الوضع في الخليج، حيث استنزفت دول الخليج النفطية ثرواتها ومدخّراتها ووارداتها في الإنفاق لإرضاء الجشع الأميركي بمئات مليارات الدولارات طلباً للدعم السياسي، وأنفقت الباقي على حرب عبثية في اليمن. وتشجع حكومات الخليج الإدارة الأميركية على تصعيد العقوبات على إيران، وخلق أزمة عالمية في سوق الطاقة، على عكس ما تقتضيه المصالح الاقتصادية لشعوب المنطقة، وفي مقدّمتها شعوب دول الخليج ذاتها، والنتيجة المنطقية المعلومة لهذا التصعيد إقدام إيران على إغلاق مضيق هرمز أمام الصادرات النفطية الخليجية، وما ستجلبه من متاعب لدول الخليج أولاً، وربما تصعيداً عسكرياً تدفع ثمنه منشآت الحياة الحيوية الحيوية اليومية لسكان الخليج من تهديد لمحطات الكهرباء ومحطّات تحلية المياه.

– النموذج الثالث ما تشهده عمليات الربط السياسي القسري التي يجريها الأميركي ويفرضها على بعض الدول الأوروبية وتسير وراءهما اغلب الدول العربية، بربط عودة النازحين وإعادة إعمار سورية بالحل السياسي الذي يناسب دفتر الشروط الأميركي من جهة، وربط المساهمات في تمويل وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين، بدفتر شروط إسرائيلي، ما يعني متاجرة بالآلام والمعاناة لملايين البشر بمنع شروط الحد الأدنى من مقومات الحياة التي يستحقونها، خدمة للسياسة. وفي المقابل وخصوصاً في عملية إعادة إعمار سورية ضرب فرص الاستثمار الواعدة التي تنظرها الشركات العالمية للمشاركة في عملية إعمار سورية كفرصة اقتصادية هائلة الإمكانات والوعود.

– في لبنان نماذج كثيرة مشابهة، لعل أولها هو التلاعب السياسي بقضية العلاقة بسورية وما تضيعه على لبنان واقتصاده من فرص في التصدير والاستثمار، والمشاركة في ورشة إعادة الإعمار، لكن أهمّها ما قدّمته لنا الجلسة النيابية من تمرير سياسي، بعيداً عن فرص الدراسة الهادئة والعلمية للمصالح الاقتصادية، في مقاربة مشاريع القوانين المتصلة بمقررات مؤتمر سيدر، فالتهدئة السياسية التي يحتاجها البلد، والقلق المالي الذي يجتاحه، شكلا سبباً أو مبرّراً للقفز فوق البعد الاقتصادي الصرف في مقاربة هذا الملف، بمثل ما تضيع فرص مناقشة هادئة وعلمية لملفات الكهرباء والنفايات بعيداً عن الخنادق السياسية وبصورة علمية مجرّدة، ويسيطر على كلّ نقاش حساب العصبيات الدنيا قبل حساب المصالح العليا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى