آخر الكلام

د. إيمان مرداس

بات الحديث عن الانتماء مفهوماً ومنهجاً مثار جدل واسع، لكونه أخذ يدخل في أدبياتنا المقروءة والمسموعة من دون إمعان النظر في مدلوله.

واعتاد البعض الخلط بينه وبين مفهومي الانتساب والولاء، وصار التمييز بين المفاهيم الثلاثة انتماء – انتساب – ولاء صعباً للغاية، وأصبح كلّ فرد ينتقي من هذه المفاهيم ما يفيده في إطار تمثيله واتجاهاته وتبعيته، وفق ميزان أولوياته في منظومته العقائدية والفكرية.

يقوم المفهوم أو المصطلح على دعائم أساسية تتصدّرها دلالات استعماله وآفاقه.

ومن هذا المنطلق نجد أنّ الانتماء والانتساب مصطلحان متلازمان مرتبطان بالإنسان وفق معطيات مختلفة، إذ ليس من اليسير التفريق بينهما، بسبب تنوّع أبعادهما ما بين ما هو فلسفي ونفسي واجتماعي ووطني، لذا تعدّدت آراء العلماء والفلاسفة حول تحديد تعريف واضح للمصطلحَيْن.

فمنهم من اعتبرهما يصبّان في خانة واحدة.

ومنهم من اعتبرهما متشابهان في التعريف مختلفان في المفهوم.

وإذا استعرنا تعريف علم الاجتماع لهذين المصطلحين نجد أنّ الانتماء حاجة اجتماعية ملحّة تتعلق بالهوية التي تُولَد من العلاقة المستقرة والمتوازنة، أما الانتساب فيتعلق بواقع معيّن دين، قبلية، عائلة إلخ…

واعتبر أنّ الانتماء سلوك إنساني إرادي منبثق عن الوعي بحقيقة الوجود، بينما الانتساب مفهوم مؤسّسي أو مجموعة نظامية تتشارك في الاستراتيجيات المخطط لها.

ويختصر د. ناصيف نصار في تعريف هذين المصطلحين وإبراز الفرق بينهما قائلاً: «إنّ الانتساب فعل ارتباط إرادي طوعي، بينما الانتماء ارتباط عضوي عميق، يرثه الإنسان في جملة تكوينه الاجتماعي»، أيّ أنّ الانتماء مشروع حياة والتزام قولاً وفعلاً، أساسه التفاعل بين الإنسان والطبيعة، بمعنى أنّ الأرض تكيّف الإنسان وهو بدوره يرد الفعل ويكيّفها، يبدأ بتحرّك الوجدان، كما جاء في كتاب نشوء الأمم. أما الولاء فهو عاطفة وجدانية تُعمق الانتماء وتُؤكد الانتساب.

وإذا أسقطنا هذه المفاهيم على ما نشاهده عبر شاشات التلفزة اللبنانية وما نسمعه من أفواه بعض السياسيين نجد أنّ الشعور العميق بالمسؤولية تجاه لبنان تلوّن بألوان الطيف الحزبية والتعددية المذهبية، وانزوى الانتماء الوطني بين كماشة الولاء ومطرقة الانتساب، مبتعداً عن أهدافه وغايته، ناشراً ثقافة غوغائية تخوينية متعالية تتغذّى على هشاشة الديمقراطية.

وهذه الغوغائية التخوينية ليست وليدة اللحظة، بل قيمة ثابتة في المجتمع اللبناني التعددي، ومعيار تصنيفي يتأرجح بين جناحي الرعونة السياسية والتعصب الطائفي، ويتفاوت قوة وضعفاً في ضوء المصالح الفردية والتبدلات الخارجية، بالرغم من محاولة الدستور اللبناني والميثاق الوطني وما جاء بعدهما من اتفاقيات ومؤتمرات إيجاد صيغة توافقية لتحقيق وحدة المجتمع، كي لا تصبح التعددية مشكلة تهدّد الحياة الوطنية، لكنه عجز عن التخفيف من حدة التنافر بين رجال السلطة السياسية التي انعكست صراعاتهم إلى أصغر وحدة اجتماعية لبنانية، نافثة سُمّ المذهبية والتبعية السياسية، حتى بات المذهب الإطار الضامن للأفراد، لا بل أصبح «المتزعّم» السياسي أو الديني «يفوق» لبنان أهمية وقيمة.

تُعتبر التعددية مظهراً حضارياً، وسمة من سمات المجتمعات الإنسانية. فلبنان ليس البلد الوحيد الذي عرف ظاهرة التنوّع والاختلاف، بل هناك دول عديدة عرفت هذه الظاهرة وفي صور متعددة إثنية، عرقية، دينية إلخ… لكن المشكلة ليست في تعدد المعتقدات وتنوّع المذاهب، ولا في تعبير أصحاب هذه المعتقدات عن هويتهم الثقافية وبرامجهم الاقتصادية، بل في التزامهم بالثوابت الوطنية، واندماجهم في المتحد الاجتماعي، وفي علاقتهم بالأرض التي تحتضنهم، لأنها شرط أوّلي للحياة المتسامية بأشكالها وأنواعها كافة.

أستاذة جامعية في التاريخ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى