تسويات التغاضي بدلاً من تسويات التراضي

ناصر قنديل

– يتفق كل المتابعين لقضايا العالم والمنطقة على اعتبار معركة تحرير حلب الحدث المفصلي الذي رسم التوازنات، التي لا تزال ترسم ما بعد حلب من معادلات. ومعركة حلب هي ثمرة تحوّلين كبيرين: الأول هو التفاهم النووي مع إيران بشراكة أميركية حاسمة، والثاني هو الدخول الروسي الحاسم على خط تغيير قواعد الحرب في سورية وكسر التوازن السلبي الذي هدّد وحدة سورية، وحمل ذبور تقسيمها وتقاسمها وإدخالها في الفوضى، حيث كانت الشراكة الإيرانية مع روسيا شرطاً رئيسياً لتحقيق ما تحقق. وقد صار واضحاً اليوم أن التفاهم النووي وفقاً للفهم الأميركي كان عرضاً أميركياً على إيران للقبول بتسوية بالتغاضي تقوم على الحصول على ميزات التفاهم ومكاسبه، مقابل الخروج من الحرب في سورية، بعدما بدا أن مثل هذا الاتفاق بالتراضي مستحيل، وتسويات التغاضي هي صيغة مبتكرة لمراعاة الإحراج الذي تسبّبه تسويات التراضي لأحد طرفيها أو لكليهما، فتقوم على التصرّف بوحي قواعد سلوك لمضمون تسوية غير معقودة رسمياً، لكنها مفهومة لطرفيها عملياً.

– مرة أخرى حاولت واشنطن تسوية أخرى بالتغاضي مع روسيا هذه المرّة عبر قمة هلسنكي، عنوانها قبول روسيا بالتخلي عن حماية الدور الإيراني في سورية مقابل الاعتراف بنصرها منفردة، وبمثل ما رفضت إيران مضمون تسوية التغاضي التي تضمنها الفهم الأميركي للتفاهم النووي وتمسّكت بحرفية نصوص التفاهم بإطاره الضيق كتفاهم حول الأبعاد التقنية للملف النووي. رفضت روسيا مضمون تسوية التغاضي، وجاهرت بشرعية الدور الإيراني في سورية وأهميته، وربطته بالسيادة السورية، وعملت بمضمون نصوص تفاهمات هلسنكي كإطار لضمان عودة النازحين السوريين، التي لا تعني للأميركيين أكثر من إطار كلامي لتفاهم مضمونه المنتظر هو تغاضٍ روسي عن الضغوط الأميركية التي تستهدف الدور والوجود الإيرانيين في سورية، ومعهما وجود ودور قوى المقاومة، ولما لم يجدوا تجاوباً روسياً خرجوا من النص الرسمي لتفاهم هلسنكي حول النازحين كما خرجوا من التفاهم النووي مع إيران.

– مع الموقف الواضح والحاسم لكل من إيران وروسيا، تولّت «إسرائيل» مهمة عرض تسوية التغاضي مجدداً على روسيا، عبر محاولة فرض أمر واقع عسكري يتجسد بتمادي حركة سلاحها الجوي في سماء سورية، واستهداف ما تسميه مواقع وقواعد إيرانية تهدد أمن «إسرائيل»، ووضعت في الكفة المقابلة للرفض الروسي مستقبل العلاقة الروسية الإسرائيلية التي كانت تظنّ حكومة الاحتلال أنها تحتل مكانة داخلية في الحسابات الروسية تضعها فوق مرتبة الحرب في سورية والتحالف مع إيران. وكانت رسالة إسقاط الطائرة الروسية، وكان الجواب الروسي أشد وضوحاً وحزماً بنشر صواريخ الـ«أس 300» بيد الجيش السوري وتغيير قواعد الاشتباك.

– انتقلت المبادرة إلى اليد الروسية، فنشر صواريخ الـ«أس 300» بيد الجيش السوري عملياً أكبر من تغيير لقواعد الاشتباك التكتيكية، وأقرب لتغيير استراتيجي في الموازين، لكنه عرض لتسوية بالتغاضي على واشنطن، للتسليم بحصرية الإمساك الروسي بالأجواء السورية مقابل عدم التصادم، فصدرت بيانات مندّدة ومحذرة من الخارجية الأميركية، لكن البنتاغون المعني بالشأن العسكري مباشرة سارع للقبول بتسوية التغاضي عندما أصدر بياناً باسم التحالف الذي تقوده واشنطن في سورية وقال إن الصواريخ لا تؤثر على عمل التحالف.

– تلقفت إيران المبادرة فقدمت عرضاً بتسوية بالتغاضي عنوانها ضرب الجماعات التي تستهدف أمن إيران في سورية والعراق تحت عين واشنطن، مقابل عدم التصادم. وتقبلت واشنطن عملياً العرض، وتغاضت، فصاغت إيران مع حلفائها العراقيين تسوية سياسية بالتغاضي، أنتجت رؤساء للجمهورية ومجلس النواب والحكومة، من دون تفاهم إيراني أميركي، ومن دون فتح لباب الصدام. فالشخصيات التي تبوأت المناصب الدستورية العراقية بدعم إيران وحلفائها صديقة لإيران، لكنها لا تصنف بين أعداء واشنطن، لكنها ليست شخصيات تسوية أميركية إيرانية تقف في منتصف الطريق بين الطرفين، ولا هي بالمقابل شخصيات صديقة لواشنطن لا تصنف بين أعداء إيران.

– بدأ مسار تسويات التغاضي يدخل السياسة من بوابة العراق، وحلقاته المقبلة في سورية كثيرة، بتقبل الأمر الواقع الجديد دون تسويات بالتراضي، وربما تكون الحكومة اللبنانية الجديدة واحدة من نماذج تسويات التغاضي أو فاتحة العودة لتسويات التراضي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى