«الفردوس المفقود» كما يتذكّره محمود شريح

اعتدال صادق شومان

إلى مساحات الشوق والذاكرة والمتعة، إلى «فردوسه المفقود» يرتحل بنا محمود شريح إلى حيث زمانه ومكانه ومقامه الأوّل محفوفاً بدفء ذكريات عصية على النسيان ما ذبلت أوراقها أو جفت جذوتها، مدوّناً حقباتها المحتشدة بعفوية لا يكتنفها تكلف، مصوّراً بدقة متناهية شخوصها، أصواتها، الأشواق منها والنغمات، ملامح وسلوكيات جيرة، ورحيق أماكنها الملوّنة، وتعاريج طرق وأزقة منفذها الاحلى إلى حلويات ضيف الله، ودكان أبو خالد.. ومكنون وافر من سير أحبة وناس، ومرابع دراسة وردفاء صف تلامذة وأساتذة، وسيل من رنين الأسماء على ربى العلم والثقافة حفرت بعيداً في وعي محمود شريح الشاب.

وقبل تداعي «الأحداث» خلف ترادف سنوات العمر، وقبل أن تكلّ الذاكرة ويتسرّب إلى مكامنها النسيان. أعاد المحمود ترتيبها… كمصدر إلهام واشتياق وتقاطعات مشوّقة، بين فضاءات وتفاصيل الزمان والمكان في «بيروت كما عرفها» محمود… بذاكرة غضة، مَتينة، قيمة، ونَبضاً.. ما اندثرت معالمها الطفولية.. في ذاكرة استثنائية وعين راصدة، كصورة فوتوغرافية عالية الجودة.

وهكذا على مسارات زمن جميل مسكون برحاب الطفولة وأحلامها… ومأهول برجال الفكر والفن والعلم وأعلام الفكر والصحافة والأدب.. ورجال كفاح، وشهداء، ولكلّ أولئك الذين قابلهم شريح في مشوار حياته الشخصية ومن الذين عاصرهم وربطته معهم علاقة صداقة وأتيح له التعرّف إليهم عن قرب وعلى طباعهم وأمزجتهم ومقوّمات شخصياتهم، والأهمّ من ذلك على ثقافاتهم وعطاءاتهم، ولما كان لهم من دور رائد كلّ في حقله، ساقها محمود في ذكرياته من غير أحكام مسبقة أو مطلقة.

وكمن يفضي «بالبير وغطاه» روى محمود شريح ما تختزنه ذاكرته من تفاصيل أطلقها بتجرّد من حبيس الذاكرة والذكريات، ومن غير إخضاعها للتأويل أو تحميلها أبعاداً قريبة او بعيدة.. قوامها سرديات بنكهة السماحة التي لم يفقدها محمود يوماً، وما زال مطبوعاً بتهاليلها على طيات وأخاديد عمره وزمانه..

محمود شريح إبن العائلة الفلسطينية المبعدة من بلدة ترشيحا في الجليل الأعلى عام 1948 كما تروي «التغريبة» في مساق القضية الفلسطينية. المولود في لبنان وتحديداً في مخيم برج البراجنة في بداية تكوينه كجزء من تكوين الحياة العامة للناس وللمكان، يصفه محمود «أحياء متصلة ببعضها بعضاً عبر بساتين زرع وترع يفصله سقي» قبل أن يتراكم إلى صفائح تنك وتتفاقم المعاناة وتكبر الغربة..

فامتهن الدكتور محمود التدريس الجامعي وخاض غمار الكلمة كتابة في الصحافة، والأدب، وكما الشعر شغفه منذ ان دمغ جبران وعيه «برومنطقية»، لم يشفَ شريح منها أبداً، إلا انّ محمود ورغم واقع التشرّد الفلسطيني المفجع بكلّ تداعياته الموغلة بالوجع لم يشكل ذاكرة مؤلمة، جارحة متأرجحة على مدار نشيج يجول ويصول في أعماقه، بل على العكس من ذلك دوّن أجمل «فترة في حياته» فيها من الودّ والمشاوير، وليالي أنس، وقصص حب رقيقة وإن لم يصمد منها الا الذكرى..

وإذا كانت الهوية مقترنة لزاماً بالمكان. فالمكان هنا عند محمود شريح، حيث نشأته وأصول لهجته، وحيث استقى الروابط العائلية، أواصرها تفاصيل إنسانية، كبر فيها محمود وصاغ هويته بين الصور العتيقة التي تزيّن جدران المنزل، ومعتقدات ام وجدة أدخلت الوهم إلى قلب الطفل محمود، وأب أبقى على وشائج لصداقات وطيدة مع رفاق الجيرة من الديار المسلوبة. فهذا عصام شريح القومي «المطلوب» ومحمد راغب قبلاوي الذي رافق محمود والدته إلى «مناحته» ومنيب صالح وأحمد عكاشة المحاط بهالة من الاحترام.. أما في مربعه الآخر الموازي حيث انتقل للدراسة في الجامعة الأميركية التي تقع في شارع بلس نسبة لمؤسس الجامعة والذي ورد اسمه في معظم مذكرات من مرّوا به.

وحول تلك الذكريات كطالب جامعي ومن وحي تأثير متاهة المكان على محيا الوافد الجديد، «طالب الطب»، الذي استهوته الفلسفة… متسربلاً بتحوّلات المرحلة معرفياً وسياسياً ونضالياً، كما أشواقها ونغماتها المتوهجة.

في «الفردوس المفقود – بيروت كما عرفتها 1975-1958» الصادر حديثاً عن دار الفرات للنشر والتوزيع لم يشأ صاحب «ياسمينة جان دارك» إلا أن يخصّ «الشاعر الأمهر بين جماعة الحداثة» خليل حاوي بملحق به وليس خفياً على أحد ولع الدكتور محمود بـ «أهم أستاذ في الدائرة العربية في الجامعة»، ولعله آخر من رآه قبل ان «يطلق النار على نفسه ليلة السادس من حزيران 1982 معلناً هزيمة أمة بأكملها».

ويختم الكتاب بفصل تناول فيه معرفته بالحزب السوري القومي الاجتماعي، بدأت على وقع هدير المصفحات تطوّق مخيم برج البراجنة ليلة 1-1-1962 التاريخ الملتصق لإعلان الحزب الثورة الانقلابية الثانية.. لتتوطد علاقته بالحزب طالباً جامعياً، محاطاً بنخبة من أساتذة وطلاب الحزب.

قرأ محمود سعاده وأحبّه وأمتلأ يقينه به، ووجد فيه الوريث الشرعي للفكر النهضوي حتى بعد حوالى نصف قرن على غيابه لم ير شريح انّ أحداً يماثله «في عمق الفهم وجرأة الرأي وثبات الموقف».

لا يسعنا القول في مذكرات محمود شريح إلا أنها خرجت من إطارها الخاص إلى قيد «وثيقة تاريخية أدبية ثقافية»، بما تتميّز به، في سرد الكثير، عن بيروت الستينيات في زحام ذاكرة لا شقوق في جدرانها.. وما زالت مزدحمة في انتظار ملحق آخر يتناول فيه ذكرياته لمرحلة ما بعد العام 1975حيث انتهى هذا الكتاب.

ومحمود شريح كما يعرفه الأصدقاء في «ذكرياته»، كما في جلساته، أو حين نلتفّ حوله كلّ «ليلة» نحن الأصدقاء بمواعيد صارمة.. يبقى ينبوعاً للمعرفة والثقافة، واسع الاطلاع، وذاكرة حاضرة لا يفوتها شاردة ولا واردة. والإصغاء إليه بلهجته «الفلسطينية» المحبّبة متعة لا تنقضي. واستفادة لا تفوّت فيها من خفة الظلّ المرير ما يضحكنا ويبكينا في آن واحد من واقعنا وعلى «فردوسنا المفقود».

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى