إشكاليّة الغموض في شعر الومضة

لارا ملّاك

اللّغة نظامٌ صوتيٌّ غايته التّواصل الإنسانيّ. أمّا القدرة على التّصويت المتّسع لدى الإنسان، لإنشاء هذا الكمّ الهائل من التّعابير الصّوتيّة المتناسقة الّتي لا يمكن حصرها ضمن لغةٍ واحدة وضمن اللّغات الإنسانيّة كلّها، فهي تعود أوّلًا إلى تطوّرٍ جينيٍّ عرفه هذا الكائن الحيّ من بين المخلوقات جميعها، ولذلك أطلق عليه علماء الاجتماع والفلاسفة تسمية الحيوان النّاطق ، فصحيحٌ أنّ الحيوانات لديها القدرة على إصدار الأصوات، لكنّها لا تمتلك آلة نطقٍ دقيقة تساعد في تراصف الأصوات وتتابعها هذا التّتابع غير المنقطع للتّعبير عن أفكارٍ لا حصر لها. وقد طرح تشومسكي في كتابه بنيان اللّغة هذه القضيّة، ليؤكّد أنّ الكائنات الحيّة الّتي يربطها مع الإنسان أصلٌ تطوريٌّ مشتركٌ كالرّئيسات لا تتشابه من حيث القدرة اللّغويّة بالإنسان، وكأنّ الملكة اللّغويّة لديه معزولةٌ إحيائيًّا. ومع أنّ الإجابات الدّقيقة عن هذه الأسئلة هي علميّةٌ بحتة وتحتاج دراساتٍ من أهل الاختصاص، ولكن إن كان العلم يعيد تطوّر أيّ خاصّيّةٍ لدى الكائن الحيّ إلى حاجته في الحفاظ على نسله ونوعه، فقد نلاحظ مدى حاجة الكائن البشريّ إلى تطوير التّواصل والتّعاون لإقامة مجتمعٍ قادرٍعلى التّصدّي لمعيقات الحياة وللمخاطر المحدقة به.

والحديث هنا لا يصبّ في خانة البحث في نشأة اللّغة، لأنّه بحثٌ طال الحديث فيه بين اللّغويّين ومنهم النّحاة العرب الّذين وضعوا نظريّاتهم في هذا الخصوص، فمنهم من قال إنّ اللّغة محاكاة، ومنهم من قال إنّها اصطلاحيّة، وآخرون رأوا أنّها منزلة… وقد تعدّدت الآراء من دون التّوصّل إلى إجاباتٍ شافية، ليعلنوا عدم جدوى هذا البحث لأنّه لا يصل بنا إلى حقيقةٍ يقينيّةٍ، وكلّ ما يُقال فيه يقع في باب التّكهّنات الّتي من غير الممكن إثباتها أو نفيها.

ولا نحاول هنا فتح هذا الباب في النّقاش، إنّما نعود لكي نشير إلى طبيعةٍ إنسانيّةٍ دفعت بنا إلى توسيع سبل وأدوات التّواصل اللّغويّ. فاللّغة تطوّرت لأنّها تعبّر عن عقلٍ فعّالٍ قادرٍ على الخلق، لذلك كانت خلّاقةً تشبهه.

والكائن البشريّ متشابك الذّهن، تتقاطع فيه الذّاكرة والوعي واللّاوعي والإرادة والإدراك والعاطفة لتشكّل شخصيّته ووجوده ضمن أطرٍ زمنيّةٍ ومكانيّةٍ واجتماعيّة تتباين بين امرئٍ وآخر. وهذا يعني أنّ كلّ فردٍ هو احتمالٌ وجوديٌّ قائمٌ له تجربته الخاصّة، لتتشكّل التّجربة المجتمعيّة الإنسانيّة الشّاملة ضمن كمٍّ ونوعٍ لا يمكن حصرهما أو تتبّعهما بكلٍ مفصّل.

من هنا، إنّ غنى التّجربة البشريّة ساهم في غنى التّعبير، حتّى استنفد الإنسان مخارج التّصويت لديه ليستغلّها في كلّ تعبيرٍ ممكن.

كما نحَت اللّغة عن كونها أداةً تواصليّةً تشير إلى الواقع فحسب، إلى شكلٍ متطوّرٍ من أشكال القول الفنّيّ والجماليّ. ويعود ذلك إلى طبيعتنا الحيّة القادرة على الابتكار الدّائم في كلّ المجالات، لهذا السّبب برز الشّعر فنًّا من أقدم الفنون على هذه الأرض. إذ إنّه يُرضي حاجة الإنسان الباحث دائمًا عن الجمال والابتكار، وهي حاجةٌ أساسيّةٌ لا ثانويّة في طبيعته، لأنّ تطوّره الحضاريّ مبنيٌّ على الفنّ والفنّ نتاجٌ فكريٌّ بالدّرجة الأولى.

وقد التصق الشّعر بالمجتمع الّذي نشأ فيه التصاقًا شديدًا، واتّخذ أشكاله في كلّ اللّغات بناءً على القدرات الجماليّة في كلّ لغة، كما عرف مع مرّ العصور تطوّره من حيث الشّكل والمضمون. مثلًا، العرب القدامى عاشوا في البادية، ولم يمتلكوا من أدوات التّرفيه ما نمتلكه نحن اليوم، لذلك كان الشّعر وسيلتهم حين يتسامرون ويسهرون ويمضون اللّيالي في الصّحراء الخالية، فجاء شعرهم غنائيًّا أولى مميّزاته الموسيقى المسبوكة والمحدّدة تلبيةً لحاجتهم إلى التّسلية والغناء، كما عبّرت قصائدهم أيضًا عن حالهم في تلك المرحلة ووصفته خيرَ وصف، ولا شكّ أنّهم عنوا بجماليّات الصّورة الشّعريّة أيضًا. أمّا في عصر الحرّيّات، فقد أرسى بعض الشّعراء مفاهيم جديدة، حرّروا من خلالها الشّعر من القواعد العروضيّة الجامدة والسّبك المحدّد بما يتماشى مع النّهضة وانفتاح الفكر وإعطاء الأنا مساحتها كي تطلق العنان لنفسها في أبعاد النّصّ.

أمّا الشّعر المعاصر، وتحديدًا الأدب الوجيز، فهو يتلاءم مع معالم المرحلة الرّاهنة، حيث يقف الإنسان في العالم العربيّ مذهولًا أمام المتغيّرات الّتي تصيب مجتمعه، ولا يستطيع بسهولةٍ أن يدركها بشموليّتها وبتفاصيلها. ويجد نفسه في ظلّ هذا الصّراع الإيديولوجيّ القائم، في مواجهةٍ مع الآخر ومع ذاته، لذلك يحاول أن يفهم الآخر ويفهم أناه والعالم والله أيضًا. وفي هذه الظّروف، الشّعر الّذي يُبنى على الموسيقى الثّابتة والتّعبير المباشر لم يعد يكفي، فلا بدّ من إعمال الفكر لإنتاج نصٍّ يلبّي حاجات الأنا المعاصرة الحائرة أمام المشهد. لأنّنا إذا كنّا مصرّين على أن نقيس بمقياس القدامى، فلا ريب سنكتب على النّسق القديم، ولن نترك للجديد أن يبتكر محاولاته في التّعايش مع الواقع المستجدّ. وقد تناول أدونيس ذلك في إحدى جلساتنا معه في بيروت، حيث قال إنّ الشّعراء الشّباب يلغون الهوّة بين الشّعر وبين الفكر. وما قاله حاجةٌ ملحّة، لأنّ مخاطبة العاطفة لم تعد تكفي. ونحن اليوم لا نحتاج إنسانًا عربيًّا يصفّق لمُعتلي المنابر وينجرّ وراء عاطفته، بل نحتاج إنسانًا قارئًا مفكّرًا يتخلّص من كبوات الماضي ومطبّاته.

ونقول هنا إنّ الشّعرعمومًا والكثيف منه خصوصًا، جانبٌ آخر من جوانب اللّغة يتخطّى طابعها الواقعيّ، ليقيم ضمنها علاقاتٍ بين الواقع والخيال، لا يستطيع النّاظرون إليها نظرةً لغويّةً بحتة أن يلامسوا أبعادها. فسيبويه مثلًا في الكتاب يتحدّث عن التّعبير اللّغويّ المستقيم، والتّعبير المحال. وقد قال إنّ المستقيم هو العبارة الصّحيحة لغويًّا وتركيبيًّا، لكنّها قد تأتي برأيه حسنةً أو قبيحة، كما أنّها قد تأتي كاذبة أي تخالف المنطق. أمّا المحال، فهو التّعبير المتناقض في عمقه، وقد يأتي المحال كاذبًا، وقد مثّل صاحب الكتاب على ذلك بعبارة سوف أشرب ماء البحر أمس . أي ينظر سيبويه إلى مدى مطابقة التّعبير للحقيقة، وليس هذا مأخذًا عليه، وذلك لأنّه تناول اللّغة بقواعدها الصّرفيّة والنّحويّة من دون النّظر في الجماليّات الشّعريّة. لكن إذا تركنا النّصّ يُغرق في شعريّته، فسيبحث النّاقد عن الدّهشة على أنّها المفارقة بين الحقيقة والخيال، وقد درس ذلك عبد القادر الجرجانيّ في كتابه أسرار البلاغة الّذي خصّص فيه فصلًا بعنوان في حدَّي الحقيقة والمجاز ، ليكون الانزياح عن المعنى الحقيقيّ جوهر الفنّ الشّعريّ. والشّعر الحديث يقوم أساسًا على هذه المفارقات، وأخذ يتّجه شيئًا فشيئًا نحو الغموض أو نحو الأسلوب غير المباشر، وذلك لأنّ الشّاعر تخلّى عن البناء الثّابت، واختار أن يطوّع بناءه الخاصّ في كلّ قصيدةٍ لصالح الصّورة الشّعريّة.

وقد وصلنا اليوم إلى تكريس هذه اللّغة غير المباشرة في شعر الومضة، وهو الشّعر الأقدر على ذلك، لأنّه يقوم على التّكثيف والإيجاز، والكثيف هو ما يتكوّن من عناصر عديدة، أي لا بدّ من تفكيكه لإدراك تركيبه وفهم مضمونه. والنّصّ الكثيف يحتاج من قارئه جهدًا ووقتًا حتّى تتبدّى له مقاصد الشّاعر، كما يتطلّب ذلك منه ثقافةً وافية، وإلّا كان في غربةٍ عن النّصّ ورآه غامضًا وغريبًا.

أستطيع بعد هذه الإضاءة على الكثافة في الومضة، أن أقارب نقديًّا العبارة الحاضر ماضٍ مستتر ، وهي للشّاعر والنّاقد أمين الذّيب. لأنّني لو قاربتها معتمدةً الواقعيّة والمقياس اللّغويّ الثّابت اللّذين لا ينظران في جماليّات المعنى لما تلمّستُ الشّعريّة فيه، ولوجدتُ تناقضًا تحدّث عنه سيبويه، وهو التّناقض بين كلٍّ من الحاضر والماضي إضافةً إلى الاستتار الّذي يشير في باطنه إلى المستقبل. ولكن شعريًّا، هذا ما يُسمّى بالمفارقة الّتي تتولّد منها الدّهشة، فالشّاعر هنا يريد أن يقول إنّ شبهًا واضحًا يظهر بين المستقبل وبين الماضي في بلادنا، ليُشير إلى عدم قدرة العرب على التّطوّر والتّغيير الفاعل. والدّهشة تتجلّى في دمج الماضي والمستقبل في خطٍّ زمنيٍّ واحدٍ هو الحاضر، وقد وصفه بأنّه مستترٌ لأنّه لم يظهر أمامنا بعد في الواقع. قد يرى المتلقّي هذه الومضة غامضةً صعبة الفهم، لكن بملكته اللّغويّة ومن خلال إعمال فكره يستطيع التّعمّق في النّصّ واستنباط الدّلالة. هكذا إذًا نردم الهوّة بين الإنسان وبين الفكر، لأنّ القارئ هنا فاعلٌ وخلّاقٌ أمام النّصّ، والفرد الفاعل في النّصّ فاعلٌ في المجتمع.

الغموض في نصّ الومضة إشكاليّةٌ قد تتعدّد آراء النّقّاد حولها، ومنهم من قد يؤيّدها ومنهم من قد يعارضها، ولكنّها تبقى داخلةً في صلب مفهوم الأدب الوجيز الّذي من غير الممكن أن يكون مباشرًا وإلّا فقد شعريّته. ولتفكيك الكثيف وإقامة صلات وصلٍ بين النّصّ المكثّف والقارئ، لا بدّ من مدارس نقديّةٍ عربيّةٍ تجيد ابتكار الأدوات لمقاربة النّصّ الشّعريّ العربيّ الجديد. فالنّظرة إلى الحديث بعينٍ قديمةٍ ضربٌ للحداثة، وهذا ما لا يفيد الشّعر بل يعيده إلى جاهليّته الّتي لم تعد منذ زمنٍ بعيدٍ تشبهنا.

شاعرة عضو في ملتقى الأدب الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى