نظرية الاحتواء المزدوج مرة ثانية

د. رائد المصري

بهدوء… وقبل شرْح وتحليل عملية اختفاء أو قتل الصحافي جمال الخاشقجي في قنصلية بلاده في مدينة إسطنبول التركية، وما إذا كانت الاتِّهامات التي سِيْقَت بحقِّ السعودية صحيحة قد تأكَّدت، علماً أنَّه في كلِّ يوم يَضيق حبْل هذه الاتهامات وتظهر الأدلَّة الدامغة حول تورُّطها ويلتفُّ حول عنق رأس النظام السعودي، تحاول الولايات المتحدة برأس إدارتها ترامب التَّسويف والمراوغة في التعاطي الجِدِّي مع حجم قضية كبرى كقضية الخاشقجي عبر توجُّهين: الأول تماشياً مع الرأي العام الدولي والداخلي الأميركي ومسايرة له في تصريحات الرئاسة التي تعبِّر عن مواقف آنية تتحدَّث عن مساعدة أو إجراء تحقيق من قبلها أو بتدفيع السعودية الثمن إذا ثبُت تورُّطها، والثانية محاولته أي ترامب إعادة ترتيب أوراق تحالفاته بما يحفظ استثماراته وصفقات الأسلحة مع السعودية المزمَع إجراؤها، وإعادة وَصْل الحَبل الذي بدأ يخنق المملكة السعودية بخيط العلاقات الذي انقطع بين الولايات المتحدة وتركيا على الخلفية السورية وعلاقتها بإيران، بُغية إيجاد نوع من التوازن الإقليمي المذهبي في وجه إيران، لكون السعودية خرجت من هذا الباب الواسع مبكِّراً وبخسائر فادحة لن يكون ثمنها أقلّ من رأس محمد بن سلمان في السُّلطة السعودية الجديدة…

القضية الإنسانية وحقوق الإنسان لدى الغرب هي مسألة عميقة الجذور في الوعي الجمْعي للشعوب، ولدى الرأي العام الأوروبي والأميركي الذي هو في حراك مستمر، لكنَّها قضية مختلفة لدى صنَّاع القرار الغربيين والمصالح الاستراتيجية بما يتعلَّق بدول الاستعمار وبمنظومته الرأسمالية النَّاهبة لثروات الدول والشعوب، فلا تقف أو تحدُّ منها قضية الحرية الإنسانية وحقوق الإنسان إلاَّ بمقدار ما يُسْعفهم في ذلك ويُسهِّل لهم عملية الاصطفاف والتحشيد، أو ما يخدم مشروع الغرب في إعادة ترتيب أولوياته وتحالفاته. وهو تبلورٌ نراه اليوم بوضوح في ما يجري بين السعودية وتركيا وما بينهما من حضور أميركي بدا أنه فاعلٌ نتيجة إطلاق القسِّ الأميركي برونسون من السُّجون التركية، فيتقدَّم أردوغان في السِّباق أولاً وتتعثَّر حركة المملكة السعودية وتتخلَّف عن الرَّكْب الإقليمي وتتثاقل قدراتها ونَقْلتها بعد خروج سفيرها شقيق ولي العهد وعودته من واشنطن الى الرياض، فيما بدا أنَّه تحييد عن الدَّرب وعن واجهة التحقيقات والتسريبات الصحافية للسياسيين الأميركيين الكبار في الكونغرس، بأنَّه صار من الصعب بعد اليوم إجراء لقاء بين ترامب ومحمد بن سلمان على خلفية قضية الخاشقجي، لكن من دون تضييع فرصة صفقة الأسلحة التي تمَّت وتمَّ معها جَمْع 500 مليار دولار للاستثمارات في الداخل الأميركي، إلى أن يحطَّ الرحال بنتائج الانتخابات التشريعية النصفية في الكونغرس، وما إذا كان الديمقراطيون سيكتسحون المجلس ويُعيدون تقييد سياسة ترامب من جديد، وهو ما يحاول التخلُّص منه بدءاً من أزمة سورية في إدلب والدور التركي استكمالاً لها في منبج وشرق الفرات بعد قصف منطقة هجين بالقنابل المحرّمة دولياً «الفوسفور الأبيض»، ومحاولة أميركا من جديد تثبيت كيان مشوَّه عمادُه الأكراد بدعمها المطلق وبطرح شروطها الاستثمارية في إعادة إعمار سورية والتي لم يدعها اليها أحد…

فقدان الدور الاستراتيجي والإقليمي للمملكة السعودية وقوَّتها في لَعِب الأدوار التاريخية في المنطقة وسقوطها أمام الامتحان الصَّعب بداية من أزمة سورية وليس انتهاءً بقضية مواطنها جمال الخاشقجي، جعل من الأميركي يفكِّر بمحاولة إلْباس تركيا اليوم بما يسمَّى الاحتواء في الإقليم لإيران، وهي بحاجة ماسّة لهذا الدور الذي لم يستكمله ترامب في صفقة القرن ولا في التحالف أو ما يُسمَّى الناتو العربي، ولا بالتهديدات والعقوبات والخروج من الاتفاق النووي مع إيرانز فهي بحاجة لدولة إقليمية وازنة كتركيا قادرة على لَعِب الدور في مواجهة إيران كما كان يلعب هذا الدور عراق صدام حسين في محاولة تثبيت معادلة الاحتواء المزدوج لكلٍّ من إيران وتركيا ضمن اللُّعبة الإقليمية لكونهما على النقيض المذهبي، لكن من دون حروب وتهديدات لطرق الملاحة الدولية وإمدادات النفط وخطوط الغاز كما كان ترامب يريد من خلال تحشيد السعودية. وهذا بدوره يُعطي نتائج مقبولة نسبياً للحضور الأميركي لكونه لا يملك البديل للمواجهة مع إيران ومحورها، ولكون هذا الدور الإقليمي لتركيا يمكن ضبط إيقاعه بمساعدة الروسي من خلال مصالح أردوغان المباشرة مع موسكو..

إذن يبدو أنه تثبَّتَ الدور الإقليمي لكلٍّ من تركيا وإيران وأصبح العرب خارج أيِّ اعتبار أو أية تسوية أو أيّة مقومات وحضور فاعل، فهم تخلُّوا عن دورهم التاريخي في أزمة سورية وإخراجها عُنوة من مجالس الجامعة العربية، وتخلُّوا عن العراق من دون أن تكون لهم مساهمة في إعادة تركيب الحلِّ السياسي فيه ومساعدته للخروج من محناته، وكذلك دورهم المنقوص والعاجز بل والمساهم في حرب اليمن العَبثية وقتل المدنيين وتدمير الدولة وهم فعلوا كذلك في ليبيا، من دون أن ننسى فلسطين وتباطئهم في نُصرتها ونُصرة القدس والشعب المعذب، فاستقالة العرب عن قيامهم بدورهم التاريخي جعلهم خارج التاريخ وخارج المعادلات. وها هم اليوم يعيشون شعوباً وقبائل متفرقة يأخذهم الأميركي متفرقين ويجمعهم مقتتلين على بعضهم بعضاً، وخير مثال اليوم هو إعادة الاستقطاب الحاد لدول الخليج في زيادة الانقسام على الانقسام بين السعودية والإمارات والبحرين من جهة وقطر والكويت وسلطنة عمان من جهة أخرى، وهو انقسام حقيقي تلعب في تأليبه تركيا بامتياز لكسب الودِّ من باب إعادة إحياء الدور الإيديولوجي للإخوان المسلمين انطلاقاً من القاعدة الخليجية بالموافقة الأميركية…

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى