الخطيئة القاتلة…

المحامي ريشار رياشي

بتاريخ 20/10/2017 أصدر المجلس العدلي حكماً قضى بإنزال عقوبة الإعدام بكلّ من الأمينين نبيل العلم وحبيب الشرتوني لإقدامهما على مقاومة اجتياح العدو «الإسرائيلي» للبنان وعلى مواجهة عملائه، لمنعه من وضع يده على الدولة اللبنانية بكافة أجهزتها بدءاً من رأس الهرم أيّ رئاسة الجمهورية عن طريق تعيين أبرز عملائه رئيساً.

إنّ الحكم المذكور لا يشكل إدانة لكلّ من الأمينين حبيب الشرتوني ونبيل العلم بشخصيهما، بل يشكل طعنة في صدر المقاومة بكامل منظومتها منذ نشأتها، وخدمة مجانية للأعداء، وللأسف هذا ما تنتجه دولة الطوائف وتجّار الطائفية الأذلاء.

إلا أنّ ثمة سؤالاً يتبادر إلى ذهن كلّ مواطن واجه الاحتلال بالفعل والموقف، لمصلحة مَن محاكمة المقاومين، ولأية جهة وجّهت هذه الرسالة بحظر المقاومة ومنعها ومنع المواطنين من الدفاع عن أرضهم في مواجهة العدو وعملائه.

إنّ الحكم الصادر تضمّن أخطاء قاتلة ومخالفات لا تحصى ولا تعدّ، ما شكّل طعنة للعدالة ولمفهوم القضاء العادل الذي من واجبه حماية المجتمع وحماية فعل المقاومة، ومواجهة جرم العمالة ومعاقبة مرتكبيه. لكن للأسف، في جمهورية الفسيفساء يحصل العكس.

وبالعودة إلى الحكم الصادر، لا بدّ من التأكيد و بشكل عام على أنه وبمجرد إدانة فعل المقاومة لصالح جرم العمالة يكون الحكم مخالفاً لإرادة معظم اللبنانيين ولدستور بلادهم، وباطلاً. إضافة إلى الأخطاء التي حصلت في سير المحاكمة والحكم وهي على سبيل المثال لا الحصر:

1 ـ إنّ مسار الدعوى وإجراءاتها لم يتضمّنا إحاطة للملف بكافة جوانبه الواقعية والقانونية. إذ أنّ الملف المذكور لا يمكن إخراجه من سياقه التاريخي والواقعي وتسلسل الأحداث. فالفعل الحاصل وما نتج عنه ليس سوى واجب على كلّ مواطن لمواجهة اجتياح العدو «الإسرائيلي» للبنان باستدعاء من بشير الجميّل وأزلامه ومعاونيه ومساعدته على احتلال معظم أراضي لبنان وعاصمته وتدمير اقتصاده وبناه التحتية وقتل الآلاف من أبناء شعبه بطرق مختلفة وفقدان الآلاف منهم.

إنّ مقاربة الملف كأنه جريمة قتل عادية اقترفت بحق أحد الرسميين، بالرغم من عدم تمتع بشير الجميّل بالصفة الرسمية حين وقوع الفعل كونه لم يكن قد أدّى اليمين الدستورية، هو أمر في غاية من الخطورة، ويشكل طعناً للعدالة والإنصاف في صميمهما.

2 ـ إنّ تعامل بشير الجميّل وأعوانه مع العدو «الإسرائيلي» ومعاونته على فوز قواته واحتلال لبنان أمر ثابت وليس موضع نقاش من أحد حتى من قبل المتعاملين معه. وهو ثابت أيضاً في العديد من الكتابات لا سيما كتاب جورج فريحة أبرز مستشاري بشير الجميّل «مع بشير ذكريات ومذكرات». وهذه الأفعال وما ارتكب بحق لبنان ما هي إلا جرائم ضدّ الإنسانية لا تسقط بمرور الزمن.

3 ـ إنّ إجراءات المحاكمة تمّت بشكل منقوص، خصوصاً لناحية تبيان الوقائع التي تحيط بالملف من كافة جوانبه والتي على ضوئها يتمّ تكوين قناعة حقيقية حول الملف! لقد تمّ صرف النظر عن الاستماع للائحة شهود الحق العام ودون عناء البحث والتمحيص في الوقائع بشكل يؤدّي إلى تبيان الحقيقة وإنصاف الجميع. وكلّ ذلك بهدف تمرير الحكم الجائر على غفلة وعلى حساب كرامة الوطن وأبنائه.

وفي محاولة لتصويب ما كان يحصل من أخطاء، وقبل ختام المحاكمة تمّ تقديم مذكرة إلى جانب النيابة العامة التمييزية وقعها عدد كبير من المحامين تطالب المحكمة بأداء واجبها في الدفاع عن حق المجتمع في مقاومة الاحتلال، وعن حق المتضرّرين من اجتياح العدو لأرض لبنان، وبأنّ الفعل الحاصل هو بدافع شريف هدفه حماية لبنان وذلك كون النيابة العامة هي طرف في الدعوى تمثل المجتمع بأكمله وهدفها ليس فقط معاقبة الجاني، بل كشف الحقيقة.

وكون النيابة العامة هي الخصم الشريف في الدعوى فإنه يقع على عاتقها السعي إلى تطبيق القانون بشكل صحيح خاصة إذا كان ثمة أدلة تثبت عدم صحة ما تمّ الاستناد إليه في طلب الإدانة. إضافة إلى أنه يقع على عاتق المجلس العدلي بناء على طلب النيابة العامة أو عفواً أن يجري تحقيقاً في الدعوى، وقد تمّت إحالة المذكرة إلى المجلس العدلي الذي بدوره تعمّد إهمالها.

نقول ذلك لنؤكد أنّ الأمين حبيب الشرتوني وفي كلّ التحقيقات التي أجريت معه، أكد على أنه أقدم على فعله بدافع سياسي. وكلّ هذه الأدلة لم تقاربها النيابة العامة ولا المجلس العدلي، لا سيما اجتياح العدو «الاسرائيلي» ونتائجه وأسبابه، والتي أدّت وفقاً لتخطيط بشير الجميّل إلى انتخابه رئيساً للجمهورية تحت مدافع دبابات الاحتلال بحيث يكون لبنان بواسطته ممراً وأداة للقضاء على المقاومة وتصفية المسألة الفلسطينية.

فضلاً عن ذلك، فإنّ الحكم لم يلامس لا من قريب ولا من بعيد ما أصاب العديد من اللبنانيين من مجازر وأضرار لا تعدّ ولا تحصى نتيجة مساعدة بشير الجميّل وأعوانه للعدو «الإسرائيلي» على احتلال لبنان، وانتهاك كرامة اللبنانيين.

إنّ هذه المسائل الجوهرية كان من واجب المجلس العدلي مناقشتها والإجابة عليها والبحث في الدوافع التي أدّت إلى ارتكاب الفعل، لا سيما أنّ الدافع الأساسي هو دافع وطني وسياسي شريف وواجب على كلّ مواطن شريف بهدف حماية المجتمع من تداعيات انحلال السلطة وتقويض المجتمع بأكمله وانهيار الدولة وإمساك العدو «الإسرائيلي» بكافة مفاصل البلاد.

كما انّ الحكم الصادر لم يقارب مسألة كون قانون العفو الصادر بتاريخ 26/08/1996 أكد في الفقرة ج من المادة رقم 2 على أنه:

«يتوجّب على المرجع القضائي المختص الواضع يده على الدعوى دون أن يستثني المجلس العدلي بأن يبت بطبيعة الجرم، فإذا كان القتل بدافع سياسي فيتوجب عليه وقف الملاحقة عملاً بالمادة المذكورة التي تعفي عفواً كاملاً عن الجرائم السياسية».

اللافت هو أنّ الحكم الذي صدر تعمّد على السرد القصصي البوليسي، ولم يأت على ذكر العدو «الإسرائيلي» في سرده للوقائع إلا في الصفحة رقم 14 حيث ورد حرفياً: «في هذه الأثناء كان جيش العدو الإسرائيلي قد بلغ العاصمة» وكأن الأمر عابراً وعادياً أن تصادف جيش الاحتلال في عاصمة لبنان بيروت. الأمر الذي يثير الاستهجان حقاً.

والخطيئة الأكبر وردت في الصفحة 26 ن، وهي من خارج اختصاص المجلس، إذ أنه قارب الملف من الوجهة السياسية بقوله: «بأنّ فعل حبيب الشرتوني ضيّع على لبنان بوادر الحلحلة للأزمة السياسية، وإمكانية حصول المصالحة». أيّ المصالحة برعاية العدو «الإسرائيلي» المحتلّ!

إنّ القضاء اللبناني الذي يعتمد على قوانين مستنسخة عن قوانين الجمهورية الفرنسية كان يمكنه الاقتداء ببعض حسناته، فلماذا لم يأخذ العبرة مما حصل في فرنسا في قضية العمالة للعدو، حيث تمّت تصفية العملاء الفرنسيين ميدانياً خارج المحاكم extrajudiciare ونفذت أحكام الإعدام ميدانياً بحق أكثر من عشرة آلاف عميل، وتمّ تكريم المقاومة الفرنسية التي أدّت إلى تحرير فرنسا وحماية المقاومين واحتضانهم من قبل الدولة الفرنسية.

إنها لمفارقة حقاً أنّ بلداً كلبنان يعتمد قوانين فرنسية مستنسخة، يحكم على المقاوم بالإعدام، فيما يُصنّف العميل «شهيداً»!

من هذا المنطلق، يتوجّب على النيابة العامة حفاظاً على كرامة لبنان واللبنانيين طلب استعادة الحكم الصادر لما تضمّنه من أخطاء إجرائية وقع فيها المجلس العدلي كون الفقه مستقرّاً على جواز استعادة القرار الجزائي عندما يكون قد وقع في خطأ إجرائي أدّى إلى إدانة المدّعى عليه، وذلك عملاً بالآلية المعروفة باسم rabat d arret.

وعليه، فإنّ الفرصة ما زالت متاحة أمام المعنيين لتصحيح الخطأ الحاصل حفاظاً على كرامة لبنان وشهدائه وعلى دستوره وقوانينه وقضائه طالما أنّ الرجوع عن الخطأ فضيلة، أولاً عن طريق استرداد القرار الجائر والحكم بوقف التعقبات عن الأمينين حبيب الشرتوني ونبيل العلم، وتكريمهما، وثانياً تشكيل حكومة وحدة وطنية حقيقية وليس تقاسماً طائفياً كما هو حاصل لا يؤدّي سوى إلى تقاسم ما تبقى من هذه الدولة الفاسدة المهترئة، والذي يهدف عن عمد الى استبعاد التيار العلماني المنتشر على مساحة الوطن والذي من خلاله يمكن خلق بعض الأمل في مستقبل لبنان، مؤكدين على أنّ المقاومة ستبقى شعلة الكرامة وستبقى تسحق الأعداء وتكسر كلّ يوم حلم العدو اليهودي ومن وراءه بالتوسع والاستيلاء، وتسحق عملاءه أينما وجدوا.

وهنا نردّد مع الزعيم الخالد أنطون سعاده: «قد تكون الحرية حملاً ثقيلاً لكنه حمل لا يضطلع به إلا ذوو النفوس الكبيرة».

عميد القضاء في الحزب السوري القومي الاجتماعي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى