التأقلم مع المتغيّرات السورية أبعد من سورية

ناصر قنديل

– لم يعُد التأقلم مع الوضع السوري المحسوم نحو النصر لصالح الدولة السورية ورئيسها وجيشها هو المتغير الوحيد الذي يستدعي التأقلم دولياً وإقليمياً، فالحرب التي خيضت لإسقاط سورية واستدعت كل هذا الحشد الدولي والإقليمي من واشنطن، وكل هذا الزمن، وكل هذه الإمكانات والتحالفات بما فيها تنظيم القاعدة، كانت في العقل الأميركي حرباً عالمية بكل معنى الكلمة، حرب إعادة صياغة الشرق كله، وصولاً لإعادة صياغة قواعد السياسة والاقتصاد في العالم كله، والفشل فيها لا يمكن أن يعني عودة الشرق والعالم إلى ما كانا عليه قبلها.

– إن الديناميات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية التي تطلقها الحروب، تجعل منها ولادة للتاريخ وصانعة لقواعد الجغرافيا بكل أوجه حضورها المتجدّدة والمتغيّرة، وفي سورية حيث تقابل نصفان كاملان من العالم، ثمة منتصر ومهزوم، وثمة مَن سيتغيّر نحو الأدنى ومن سيتغيّر نحو الأعلى، مهما كان التحايل على التسليم بالتغيير. وغالباً تتحول نهايات الحروب إلى حروب من نوع آخر هي حروب الإنكار، أو حروب رد الاعتبار، أو حروب تقاسم المغانم، وحروب توزيع أنصبة الهزائم.

– التأقلم مع روسيا جديدة، فاعلة في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية على المستوى الدولي، ودولة تتقدم نحو موقع المرجعية في النظام العالمي الجديد، من موقع القدرة على صناعة التسويات بعد إثبات القدرة على الفوز بالحروب، هو الحقيقة التي تتقدّم وتفرض حضورها بقوة، ولا تبدو موضع شك أو إنكار، فالذي يدور بين واشنطن وروسيا لا يطال هذا البعد من الاعتراف بدور روسي جديد، بل بحدود هذا الدور من جهة، وتحديد شعاع الدائرة التي يجب التسليم لروسيا بإدارتها، وبشعاع دائرة الحلفاء الذين تسعى روسيا لفرضهم معها في جبهة الرابحين، وفي مقدمتهم إيران والصين.

– التأقلم مع تفكّك الجبهة التي قادت عبرها أميركا الحرب على سورية، والنواة المتماسكة فيها التي شكلتها أوروبا وتركيا حول واشنطن، وقد صار تكرار الأحداث التي تقول بانتقالها إلى منطقة الوسط أكبر من تفسيره بالتكتيكي، وفي كل الحروب تتقرّر معايير المنتصر والمهزوم في تحديد مصدر تشكل منطقة الوسط، من جبهة أي من المحورين المتقابلين، ومواقف أوروبا وتركيا من نتائج الحرب على سورية والتموضع إلى نقطة انفتاح على التعاون مع روسيا، إلى الموقف من الملف النووي الإيراني والعلاقة بإيران والعقوبات عليها، وصولاً إلى الموقف من صفقة القرن ومشروع تصفية القضية الفلسطينية، ورفض مجاراة واشنطن في الموقف من القدس وقضية اللاجئين، عدا الحرب التجارية التي تخوضها واشنطن ولا تنج منها أوروبا وتركيا، وقائع لا تقبل الجدل حول تبلور منطقة الوسط أو حول تفكّك النواة الأميركية الصلبة للحرب على سورية.

– حرب رد الاعتبار التي خاضتها «إسرائيل» لفرض حرية الحركة لطيرانها في الأجواء السورية تكاد تحطّ رحالها بفشل ذريع، فشبكة صواريخ الأس 300 التي أعلنت موسكو الانتهاء من تسليمها للجيش العربي السوري ليست قضية عابرة، فهي واحدة من مكوّنات قرار الحرب على سورية وواحدة من خواتيمها، ففي العام 2010 وقعت موسكو ودمشق صفقة سلاح نوعي تتضمّن تزويد روسيا لسورية بصواريخ الأس 300 وصواريخ الياخونت البحرية وصواريخ الأكسندر البرية، ولم تنفذ موسكو الصفقة بسبب ضغوط وتعهدات أميركية وإسرائيلية، وتكرّر الأمر عام 2013 رغم الوعود الروسية لسورية بعد حشد الأساطيل الأميركية على سواحلها، وقد جاء التسليم ختاماً ليُنهي المسار الذي سعت «إسرائيل» لقطعه عبر المشروع الأميركي لإسقاط سورية أو تقسيمها وتقاسمها، معلناً نهاية زمن الردع الإسرائيلي ونهاية حروب رد الاعتبار.

– حرب الإنكار خاضتها واشنطن وتل أبيب والرياض، لرفض التسليم بالمكانة الجديدة لإيران في المنطقة، وجاء الانسحاب الأميركي من التفاهم النووي والتحضير لصفقة القرن كإطار لإنهاء القضية الفلسطينية بشروط إسرائيلية، مقدمة لحلف عربي إسرائيلي بوجه إيران، كما جاءت الضغوط على روسيا لإخراج إيران من سورية كشرط للاعتراف بنصر سورية والنصر الروسي في سورية، بهدف عزل إيران، لكن المشهد المنتصب بالملف النووي وبصفقة القرن وبمستقبل سورية، يقول إن حرب الإنكار تنتهي إلى الفشل قبل أن تبدأ.

– حرب تقاسم المغانم لم تقع في جبهة المنتصرين، وخصوصاً بين موسكو وطهران، فتقاطعت مع حرب توزيع أعباء الهزائم بين حلف الخاسرين، ولا تبدو الأحداث التي تتهيأ لها السعودية إلا تعبيراً عن هذا المسار، حيث تتم الترتيبات التي تجعل السعودية مَن يدفع ثمن الهزيمة، ومن يجري تقاسمه كغنيمة، حيث يخرج الجميع عندها بحصة ضمن صفقة عالمية إقليمية كبرى عنوانها رابح رابح.

– ابتعدوا عن المحور السعودي لم يعُد نداء أخلاقياً، بل صار دعوة مصلحية، كي لا تكونوا ضمن جردة الممتلكات في تفليسة القرن عندما يبدأ تقاسم الغنائم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى