محمد صادق… أخي ورفيقي في ذكراك العاشرة غائب على ذروة الحضور

اعتدال صادق

وفي الذكرى العاشرة… تحضر المكانة… من سدة الغياب…

فيستقيمُ المكان في حضرة قامة يزيدها الغياب حضوراً، وثواء على ضفافٍ من ضياء . وتعود إلينا من حيث لم تمض..

عشر سنوات مضت.. ونحن على حزن..

سنوات عشر، وإننا لمحزونون على الغياب الذي أعلناه حزناً بليغاً عظيماً في لحظته، ولا يزال وقعه عظيماً مهيباً.. ولا يزال الحزن على وطأته جليلاً، موغلاً، موغراً على مدى ممرات ومنافذ القلب، لم تبرّده السنين أو تخفت من نشيجه.. بل أرسته عميقاً يقيم بين الضلع والنبض، والحزن في عمقه أشدّ إيلاماً بدويه القاتل.

وإنْ كان انهمار الحزن هنا ليس للمناحة، بل وقوفاً على ذكرى حياة رائدة كفعل وجود لا فعل موت، سدّد ميثاقها ونازلها محمد صادق وجهاً لوجه، نزال المؤمن بحتمية الانتصار لا محال.

غير أنّ الحزن ماكر، مختال، صلف النبرة عاليها، يتحدّى الصبر فينا، ولا تنطلي عليه مهابة الدمع المتواري خلف الجفون. يعبر إلينا، ينفذ إلى داخلنا، ينازلنا، يستفزنا، ويضرب بلؤم، حتى يعرّي منا فتات الروح وتصير العظام مكالح..

وبهذا المضنى، وباحتشاد الشوق دأبت كلّ دروبي تقودني إليك محمد. لسنوات عشر انقضت على مسار طال وأردته أن يقصر، فما أخلفت معك موعداً أو عيداً، أنت وأنا معاً في مواعيدنا الثابتة.. أزورك وتلقاني، ألقي السلام على روحك فيهفُّ النسيم رهيفاً، وفي الحال تتبدّد وحشة المكان بأنس طيفك. وأنا في طقس صوفي ساكن خاشع أدور ثم أدور، أسقي زهورك.. أحكي لها عن أخي، أجدّد مواسمها، أنشر الريحان عند قبلة الرأس، أتحسّس التراب أمسِّده، وأتبادل معك أطراف الذكريات كخوالي أيامنا، أنت في صمتك المهيب، وأنا على جرحي النازف، تارةً أحكي و تارةً أصغي، وتارة أكمل حديثاً لم يمهلنا الأَجل لكي ننهيه، وإذ تسألني عن الحال والأحوال، أتلو عليك أسماء أحبة لنا أضيفت أسماؤهم إلى دفتر الغياب، أما السؤال عن والدتك، فقد طعن بها العمر وذهبت عنها ذاكرتها وما عادت تعي إلا السؤال عن كبير أبنائها الذي مضى: «رجع محمد يا اعتدال؟ وصل خيك يا ماما»… فأشفق عليها من قسوة الجواب.

وإذ أنا على إسهاب في تقليب المواجع عليك ولأنك من كارهي النحيب.. يأتيني صوتك بالنبرة الحاسمة ذاتها: «إنهِ.. أوجعتِ قلبي، إلى متى ستبقين متسربلة بأحزانك».

ألا تكُفّين؟ لقد ظننت أنكِ برئت من حزنك الأبدي، ومن انْكِسارك، من تَعَثُّرك، من كَبْواتك الكبرى.غير أنك تصرّين على اقتراف السقطات. مثلك كمثل «الفالج لا تعالج».

حسناً، أجيب! دعك مني يا أخي فقد غادرني زماني المبعثر أصلاً وفاتتني الهمة وما عاد الدهر يُصلح ما أفسده. تعال إذن نترافق إلى التغاريد المبهجة.

ألا أحدثك عن مهجة قلبك وثمرة فؤادك.. عن أبنائك الذين يشتاقون إليك ويقسمون برحمتك… رمزا أو كما يحلو لها أن نناديها «رورو» ريحانة روحك واحتضانك الأول وحدبك الحنون وقد حازت عندك على كلّ الوجد وكنت لها الأمان وقد جعلتك جداً للمرة الثانية بعد «حسونة» فهذه «بترا» جنيتها الجميلة، وصادق المشاكس الأكبر، ولي العهد تيمّناً بوالدنا الصادق، بلال وسط العقد بين إخوته وله في القلب حصة الأسد، ورنا الأصغر سناً والأكثر يتماً عند رحيلك. لا أخفيك يا أخي، لم تكن حياتهم من بعدك ترفاً مريحاً، وما طالهم لهو، بل تحدّ خاضوه مع والدتهم بشق الأنفس حتى أحبطوا كبوات الأيام وغلاظتها وما زالوا يجاهدون..

غير أني أودّ أن أقلب صفحة الكلام، وأدعوك إلى النظر إلى الصفحة العاشرة من «البناء» بعهدة الزميلة الشابة رنا محمد صادق، الإعلامية الواعدة كما أردت لها تماماً، تعمل على تكريس نفسها حضوراً ناضراً متميّزاً، عدّتها قلم جريء ولغة جميلة… وطاقة «تنطح الصخر».

وماذا عن حصنك الحصين، ساحات النشئ الطالع إلى ساحاتك.. وهي أيضاً مثلي متخمة بالفقدان تفتقد «حدة الصوت» يعلن «الأمر لي» ليخفقُ الصوت في كلِّ صوب واتجاه ويمضي في تأصيل كلِّ بناءٍ قولاً وسلوكاً…

ساحاتك ومثلي هي، اشتاقت إلى هدي الصوت، لوقع الخطى، لرنين الاسم، وكم كنت رائعاً وجميلاً.

أأحدثك عن ساحات تملكت من كيانك في شغف قلّ نظيره حتى صار لك في كلّ ركن من أركانها أثر؟ بملمح كلّ شبل وكلّ زهرة وكلّ رائد، وكيف لا وأنت واضع أبجدية انتظامها، مفاهيم وقواعد على أسس متينة لترتفع مؤسسة نضالية راقية تبقى وتستمر، قلّ نظيرها بين الأحزاب وترقى بانضباطها إلى مستوى المنظمات الدولية الكشفية إدارة وتنظيماً وانضباطاً، وقد مهرتها بضوء جنانك وإناءة جهادك، بأحلامك المتبخترة نحو سدة الكمال، لتشيدها منارات متوقدة لتحيا سوريانا بزوايا قائمة تستقيم وتستوي. تشْحذ الهمم الطالعةَ لتبقى نابضة لا يغزوها انحسار أو تراجعُ أو شطط. أذكر ويذكر كل الحزب كم قضت منك سهر الليالي كدّاً ودأباً ومجالدة شرسة على مدى ثلاثين عاماً قياماً وجلوساً حتى استحقيت ما بات يعرف في صفوف النهضة بـ «ظاهرة» محمد صادق الرائدة، وما من مغالاة في هذا القول… والأجيال تشهد… تلك هي ساحاتك الموسومة ببصمة من روحك، من ملمحك، بصليل الصوت والبصمة أيها القائد دمغة لا تزول ولا يلتبس عليها.

محمد صادق…

يا صاحب الذكرى…

يا أخي ورفيقي… أيها القائد وكم يليق بك اللقب.. أيها الأمين، يا من ارتفع على الهتاف المتوقد العالي، يا من علت به الرتب مترفعاً عن غثاء الكلام ورماد الألقاب. فنلت من المجدِ أعلى مراتب الشرف بحضورك المغاير…

أيها الصادق، تميّزك بيننا أننا ما عرفناك إلا مثالاً للالتزام، متواضعاً كسنابل العطاء، عظيم الهمة بصلابة الصوان، نقي القلب والسريرة كبراءة الأطفال.

فطوبى لك وقد صنعت لنا بين الفقد والتجلي، نحن أهلك، إخوتك، أولادك، رفقاؤك، حزبك، مكرمة لملمت خسارتنا بك.

طوبى لنضالك.. وطوبى لنا بك في ذكراك مناضلاً وفقيداً.

فمن كان مثلك يا أخي محمد صادق… ينضوي اسمه في كتاب «الخالدون» فقيداً برتبة شهيد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى