ثبوت «النية المسبقة» لقتل خاشقجي لا يعطّل النيّة المسبقة لصفقة مرابحةٍ ثلاثية

د. عصام نعمان

للمرة الثالثة تبدّل السعودية روايتها لملابسات تصفية جمال خاشقجي. فمن رواية القتل أثناء «شجار واشتباك بالأيدي» داخل قنصليتها في اسطنبول، إلى رواية القتل بـ «كتم النَفَس»، إلى إقرارٍ من النيابة العامة في الرياض بأنّ المشتبه فيهم « أقدموا على فعلتهم بنية مسبقة».

ثبوت النية المسبقة للقتل لدى المشتبه فيهم السعوديين لم يعطّل نية دونالد ترامب المسبقة لتفادي إدانة محمد بن سلمان بل لتبرئته. إدانة ولي العهد وهو الحاكم الفعلي للبلاد تعني إدانة السعودية دولةً ومسؤولين. لوحظ منذ بداية تواتر الظنون والإتهامات ان ليس في نية الرئيس الأميركي التسليم بإدانة محمد بن سلمان لأنها تستتبع بالضرورة إنزال عقوبات شديدة بالسعودية ليس أقلها صرف النظر عن صفقة تزويدها أسلحةً بقيمة 110 مليار دولار.

ليس ترامب وحده من يستهول خسارة الصفقة المليارية. لوبي صنّاع السلاح وتجّاره في الولايات المتحدة يشاطر شاغل البيت الأبيض موقفه الحريص على مصلحة «أميركا أولاً». «رابطةُ الصناعات الجوية» التي تضمّ كبريات شركات الصناعات العسكرية كـ «لوكهيد مارتن» و«نورتروب جورمان» و«بوينغ» و«ريثون» و«جنرال داينمكس» بعثت برسالة إلى إدارة ترامب تتضمّن «نقاطاً طارئة» هي بمثابة برنامج عمل لصنّاع السلاح لاعتماده في الضغط على صنّاع القرار في الولايات المتحدة. تتمحور نقاط الرسالة على حجة رئيسة مفادها «أننا، ببيعنا المنتجات الأميركية للحلفاء والشركاء، نستطيع أن نضمن ألاّ يتمكّن أعداؤناً من أن يحلّوا محلنا في علاقاتنا السياسية والعسكرية والاقتصادية».

إلى ترامب ولوبي السلاح الأميركي، تحظى السعودية بدعم ضمني من «إسرائيل» واللوبي اليهودي الصهيوني «إيباك» في واشنطن، ذلك لأنّ لـ «إسرائيل»، بحسب دان شابيرو، سفير الولايات المتحدة السابق في تل أبيب، «مصلحة قوية في أن تبقى السعودية حليفة للولايات المتحدة من أجل القيام بأفضل الاستعدادات لمواجهة إيران» راجع مقالته في صحيفة «هآرتس» بتاريخ 2018/10/19 .

في إطار التحسّب لموقف إدارة ترامب وانعكاسه المحتمل على العلاقة الضمنية المتنامية بين «إسرائيل» والسعودية في مواجهة إيران، نشر زلمان شوفال، سفير تل أبيب السابق في واشنطن، مقالة في صحيفة «معاريف» 2018/10/22 كشف فيها انّ زيارة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو الأخيرة الى الرياض واجتماعه الى الملك سلمان وولي عهده انتهت الى التفاهم على «صيغة أساسُها اعتراف السعودية بما حدث من دون تفاصيل أو من دون الإشارة إلى مسألة مَن أعطى الأوامر، وانّ هذا السيناريو يفترض أن يؤدّي إلى محاكمة استعراضية تجري للذين نفذوا الجريمة في القنصلية السعودية في اسطنبول».

ما موقف تركيا مما جرى على أراضيها وما دورها المرتقب في سيناريو «اللفلفة» الجاري على قدم وساق؟

قيل إن «لا أحد في الشرق الأوسط يقدّم خدمات مجانية». أورد هذا القول السفير شابيرو في مقالته آنفة الذكر. من هنا فإنّ همّ أنقرة الرئيس سوف يتركّز، بطبيعة الحال، على الثمن الممكن استخلاصه من السعودية وأميركا مقابل «لفلفة» هذه الجريمة الحدث التي ارتكبت فوق الأرض التركية. في هذا السياق، تابَع ويتابع رجب طيب أردوغان ووزير خارجيته مولود جاويش أوغلو الكشف بالتدريج عن الوقائع والحقائق التي تتوصل اليها التحقيقات في القنصلية السعودية ومحيطها ومع موظفيها، مقرونةً بحرصهما على طرح المزيد من الأسئلة المحرجة حول هوية الآمر الفعلي بارتكاب الجريمة وعن مصير جثة خاشقجي. غير أنهما في كلّ ما يقولانه يحرصان أيضاً على إبقاء باب المفاوضة والمساومة والمقايضة مفتوحاً مع الرياض ومع واشنطن بدليل استبعاد جاويش أوغلو إحالة القضية على المحكمة الجنائية الدولية.

ما هي الخطوط العريضة المحتملة لصفقة القرن الجديدة بين العواصم الثلاث؟

ما يهمّ الرياض، بالدرجة الأولى، إبعاد أصابع الاتهام عن ولي العهد محمد بن سلمان لتبقى السلطة في عهدته ومعها تبرئة سمعة المملكة التي لاكتها ألوف الألسنة بالذمّ والتأثيم والتجريم احتجاجاً وإدانةً لحربها الظالمة على اليمن، ولنصرتها الحرب الإرهابية في سورية وعليها بالتعاون مع الولايات المتحدة وتركيا، وانخراطها في «الحرب الناعمة» التي يشنّها التحالف الصهيوأميركي على إيران والتزام تصنيفها العدو الأول للعرب في الحاضر والمستقبل بدلاً من الكيان الصهيوني العنصري التوسّعي المغتصب.

ما يهمّ أنقرة، بالدرجة الأولى، الحصول من السعودية على تعويضٍ مالي وازن مقابل امتناعها عن إدانة محمد بن سلمان، والضغط على واشنطن لحملها على التسليم بهيمنة تركيا على شمال سورية، ولا سيما على مناطق شرق الفرات، بدعوى تحصين الأمن القومي التركي في وجه الأكراد السوريين الإنفصاليين المتعاونين مع الإرهابيين من أنصار حزب العمال الكردستاني التركي. وقد تقوم أنقرة بالضغط على واشنطن لمساعدتها في حمل السعودية على رفع حصارها عن قطر. بذلك كله يظنّ أردوغان وجماعته انهم يكرّسون دوراً لتركيا كقوة إقليمية كبرى.

ما يهمّ واشنطن، بالدرجة الأولى، المحافظة على السعودية كحليف مقبول ومرغوب داخل الولايات المتحدة ولدى حلفائها الأطلسيين كي تستمرّ معها في عقد صفقات أسلحة بمليارات الدولارات، وفي محاصرة إيران سياسياً واقتصادياً وأمنياً، وفي توظيف الجهود لتعطيل سياستها المعادية لـ «اسرائيل» والداعمة لسورية وقوى المقاومة العربية، ولا سيما تلك المنخرطة في صراعٍ مرير ضدّ الهيمنة الأميركية والعدوان الصهيوني.

الخلاصة؟

توحي التطورات والواقعات وبعض المعلومات المتسرّبة من الحوار الضمني الجاري بين العواصم الثلاث بإمكان التوصّل، عاجلاً او آجلاً، إلى تسويةٍ مرنة لصفقة مرابحةٍ ثلاثية فيها من المقايضات ما يتيح لكلٍّ من أطرافها رعاية همومه وتحقيق أغراضه الرئيسة بتكلفة مقبولة.

وزير سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى