إيران في مواجهة الحرب الاقتصادية الأميركية

العميد د. أمين محمد حطيط

منذ نجاح ثورتها الإسلامية في العام 1979، وإيران عرضة لعدوان أميركي متواصل تتغيّر أشكاله ويستمرّ في جوهره وطبيعته مركزاً على هدف واحد هو إسقاط نظام سياسي تحرّري استقلالي قام على فكرة كسر التبعية والوصاية التي تمارسها القوى الاستعمارية بقيادة وتخطيط أميركي.

بيد أنّ إيران رغم تلك السلسلة من المواقف والاستهدافات العدوانية ضدّها، ورغم ما حشدته أميركا من قوى إقليمية ودولية في مواجهتها تمكّنت في العقود الأربعة الماضية من النجاح في بلوغ أربعة أهداف استراتيجية كبرى لم يكن المعتدي يتصوّر إمكانية تحقيق أيّ منها، فقد تمكّنت إيران من تثبيت ثورتها وحماية النظام الإسلامي الذي جاءت به هذه الثورة، كما تمكّنت من حماية الوحدة الوطنية والأمن الداخلي والسلام العام، كما حققت درجة متقدّمة من الاكتفاء الذاتي في المجالين العسكري والاقتصادي، ولكن الأهمّ والأخطر على سياسة الهيمنة الأميركية هوالنجاح الإيراني في إقامة الفضاء الحيوي الاستراتيجي الإقليمي ذي البعد الدولي العام والمصان بمنظومة مركبة معقدة من عناصر سياسية وعسكرية وتحالفات استراتيجية، ما يعني انّ العدوان الأميركي المتمادي فشل في ليّ ذراع إيران وعجز عن تحقيق أهدافه الاستراتيجية خلال 40 عاماً.

اليوم وفي الذكرى 39 لقيام الطلاب الإيرانيين باحتلال السفارة الأميركية في طهران باعتبارها وكر تجسّس على الثورة تعمل على إسقاطها، في هذه الذكرى يعلن الرئيس الأميركي ترامب، وبعد طول تهديد وتوعّد، يعلن عن حزمة من التدابير الكيدية العدوانية ضدّ إيران، تدابير يهدف منها «خنق إيران» اقتصادياً الى درجة تؤدّي الى عزلها دولياً وقطع ايّ تعامل مالي او تجاري او اقتصادي معها خاصة في مجال النفط والتحويلات المالية، تدابير يقصد منها الأميركي دفع الشعب الإيراني للخروج إلى «الثورة» ضدّ النظام الإسلامي وتحقيق الهدف الاستراتيجي الأكبر لكلّ من أميركا و»إسرائيل» التي لا تجد لها عدواً يتقدّم على عدائها لإيران وحزب الله الذي تعتبره هي وأميركا ذراع إيران في كامل الإقليم.

ومع هذه التدابير الكيدية التي تسمّيها أميركا «عقوبات»، في حين انّ التسمية الموضوعية لها هي حرب اقتصادية عدوانية تشنّ على دولة مستقلة ذات سيادة، حرب تشنّ على أساس ذرائع واهية كاذبة لا تمتّ للحقيقة بصلة، حرب ترافقت انطلاقتها المشدّدة اليوم مع لائحة من الشروط تطلب أميركا من إيران تلبيتها إذا ارادت إعادة البحث والمراجعة لتلك المسماة «عقوبات»، شروط إذا تمّ تحليلها وتصنيفها والوقوف على القصد منها لأمكن القول بانّ أميركا تريد وبكلّ بساطة ان تقدم إيران على الانتحار وشطب نفسها عن الخريطة الاستراتيجية الإقليمية والدولية وتسليم قيادها الى أميركا، شروط تعدّد حتى بلغت الاثني عشر شرطاً يمكن ان تختصر بعناوين أربعة هي:

1 ـ تخلي إيران عن أيّ حق في المجال النووي مهما كانت طبيعته مدنية او عسكرية، بحثية او استثمارية.

2 ـ تخلي إيران عن أيّ حق بامتلاك القوة المناسبة للدفاع عن النفس وفقاً للأخطار القائمة وإسقاط معادلة الردع الاستراتيجي التي حمت إيران ومصالحها خلال السنوات الماضية وفتح الباب للوصاية الدولية الدائمة عليها.

3 ـ التخلي عن الثورة الإسلامية والتنكّر لمبادئها والتخلي عن قضية فلسطين وعن هدفها الاستدراجي بإقامة شرق أوسط لأهله.

4 ـ تخلي إيران عن فضائها الاستراتيجي الحيوي وشطب نفسها عن الخريطة الاستراتيجية الإقليمية، لتتمكّن أميركا من استباحة المنطقة دون أيّ تهديد او خطر يمنعها من السير قدُماً في «صفقة القرن».

ونظراً لخطورة الشروط الأميركية تلك على واقع إيران ومستقبلها وحق شعبها في السيادة والاستقلال، فإننا لا نرى مطلقاً أيّ فرصة للقبول بهذه الشروط او حتى مجرد مناقشتها، وأعتقد انّ من وضعها يعرف ذلك ويدرك بأنها مستحيلة التطبيق لأنه يعرف الطبيعة الإيرانية التي ترفض الذلّ والاستسلام وانْ كان يجهل او يتجاهل ذلك فعليه ان يتذكّر الأداء الإيراني خلال العقود الأربعة الماضية وكيف انّ إيران خرجت منتصرة من حروب بالحديد والنار او حروب اقتصادية بالتضييق والعزل والحصار.

ويبدو جلياً انّ إيران التي لا تسعى لعداء او مواجهة مع أحد لم يعتد عليها وتتمنّى أطيب العلاقات مع دول العالم باستثناء من يغتصب الحقوق ويعتدي على الآخرين كما هي حالها مع «إسرائيل». انّ إيران هذه لا تتهرّب من المواجهة إذا فرضت عليها كما هي الحال الآن مع أميركا التي تشنّ الحرب الاقتصادية القاسية واللئيمة عليها. ما يعني انّ إيران على عتبة مواجهة جديدة قد لا تكون سهلة، ولكن انطلاقاً من الأوراق التي قد تلعبها إيران في ميدان المواجهة الاقتصادية يطرح السؤال عن مصير المواجهة؟

وللإضاءة على ما يتوقع من نتائج المواجهة تلك يكون مفيداً ان نتوقف عند ما لدى إيران من مصادر القوة المؤثرة في المواجهة وهنا يمكن التوقف عند ما يلي:

أ ـ قوة النظام الإسلامي في إيران وشجاعة المسؤولين فيه، وقد كان مؤثراً جداً ان يتصدّى مرشد الثورة الإسلامية السيد علي خامنئي بنفسه معلناً انّ إيران ستنتصر اليوم في الموقعة الجديدة كما انتصرت في المواقع السابقة خلال الأعوام الأربعين الماضية، وعد يسنده على طاقات تملكها إيران في الداخل وعلاقات دولية متينة مع الخارج، ثم تأتي رسالة التحدي الأخرى من رئيس الجمهورية حسن روحاني بقوله: «سنبيع النفط ونخرق العقوبات».

ب ـ الإرادة والقوة التي يبديها الشعب الإيراني المتماسك خلف قيادته حيث أثبت هذا الشعب قدرة فائقة على التحمّل والمواجهة والتمسك بنظامه الإسلامي وهو يعرف انّ الثبات هنا يشكل وجهاً من وجوه الدفاع عن الثورة والاستقلال والسيادة، وطبعاً يريد الشعب ان يحفظ النعمة التي يعيشها في الأمن والسيادة والاستقلال، ولهذا جاءت التظاهرات العارمة التي عمّت المدن الإيرانية يوم بدء العقوبات الأميركية لتؤكد على هذه القوة الشعبية في المواجهة.

ج ـ قوة الاقتصاد الإيراني المبني على فلسفة «الاقتصاد المقاوم» وهو الذي تمكّن من رفع درجة الكفاية الذاتية الى مستويات عليا، وقد ساعدت سنوات الحصار والتضييق السابقة على رفع مستوى القوة والصلابة في هذا الاقتصاد الى حدّ جعله يلامس الاكتفاء الذاتي بنسبة تصل الى 85 .

د ـ العلاقات الإيرانية مع الخارج وهي علاقات تبادلية متوازنة في كتير من الوجوه، وبالتالي انّ المحافظة على هذه العلاقات لن يكون في مصلحة إيران فقط بل هي مصلحة لكلّ أطرافها، ولهذا شاهدنا كيف انّ كثيراً من الدول أعلنت مسبقاً رفضها للانصياع لـ «الأوامر» الأميركية بمقاطعة إيران، ما اجبر أميركا على إعفاء 8 دول من تدابيرها، الأمر الذي أدّى الى فشل أميركا في تنفيذ مقولة «صفر صادرات نفطية إيرانية».

ه ـ اجتراح البدائل المالية والاقتصادية وفتح الأبواب أمام العملات الأجنبية لتكون النقد البديل المعتمد. وهنا نشهد توسع التجارة الدولية بالمقايضة او بالعملة الوطنية للدول، وفي هذا إلحاق الضرر بالدولار وبأميركا وفتح الطريق أمام نظام مالي عالمي جديد لا يعتمد الدولار عموداً فقرياً فيه.

و ـ التدابير الاحتياطية الاستباقية المعلنة او المستترة التي اتخذتها إيران وحلفاؤها للالتفاف على العقوبات الأميركية وللخروج من النظام المالي والاقتصادي الأميركي والتي ستشكل صدمة لأميركا عندما تشهر او يكشف عنها.

ز ـ موقف الدول ذات المصلحة بعدم نجاح أميركا في حربها الاقتصادية ضدّ إيران مثل روسيا والهند والصين والاتحاد الأوروبي، لانّ هذه الدول والكيانات السياسية تعلم جيداً انّ نجاح أميركا في قراراتها الكيدية القسرية الأحادية سيشكل لها حافزاً لتطبيق هذه التدابير على أيّ كان في العالم وتعيد الى الأذهان مفهوم النظام العالمي الأحادي القطبية الذي تتربّع فيه أميركا على عرش العالم وحيدة دون منازع. وبالتالي يجد العقلاء انّ فشل الحرب الاقتصادية الأميركية على إيران اليوم يشكل مصلحة دولية وخدمة للقانون الدولي العالم.

وعلى هذا الأساس، ورغم كلّ التهويل الأميركي فإننا نرى انّ حظوظ نجاح أميركا في تدابيرها الاجرامية القسرية الكيدية ضدّ إيران، انّ حظوظ نجاحها منخفضة جداً في ظلّ شبه استعداد دولي تبديه إيران ودول قوية أخرى للمواجهة وكسر القرار الأميركي، وإذا كانت أميركا العاجزة عن تكرار التجربة العسكرية في أفغانستان او العراق او ليبيا في إيران، اذا كانت تظنّ انّ حربها الاقتصادية هذه ستعوّض لها خسارتها الاستراتيجية في سورية والمنطقة، فانّ ظنها في غير محله في مواجهة قوى صاعدة ومتغيّرات دولية لن تستطيع أميركا وقفها او احتواءها او حجب مفاعيلها والتصدّي لها، وسيكون فشل أميركا في الحرب الاقتصادية ضدّ إيران مدوياً وسالباً منها ورقة طالما هدّدت بها فرجف من تهدّده وأذعن لها. ولهذا نرى انّ العالم كله سيكون مشدود الأنظار الى ميدان هذه الحرب ينتظر نتائجها التي لن تتأخر أكثر من ثلاثة أشهر على ما نعتقد، فتجاح إيران في هذه المواجهة هو نجاح للعالم في وجهة الغطرسة الاستعمارية الأميركية.

أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى