فلسفة قوة حزب الله وسرّها

غالب قنديل

قدم كتاب «حزب الله فلسفة القوة» للأستاذ ناصر قنديل سيرة تاريخية لحزب المقاومة ولنضالاته المجيدة ولدوره التاريخي ولفكره السياسي الذي تطوّر في سياق التجربة وأمام تحديات حركة الصراع بدينامية انطلقت من فهم التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني بوصفه قوة الاحتلال ومركزاً لمنظومة الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية.

تبحّر المؤلف بأسلوب شيّق برواية مسار التطوّر الفكري والسياسي والنضالي لحزب الله الذي امتاز بكونه قد تشكل من خلال التجربة الحية وبروح التضحية والتواضع التي تمسك بها هذا الحزب، وجسّدها من غير إشهار خطة استراتيجية مسبقة، ودون هندسة افتراضية لمراحل النضال، بل بالتشديد الدقيق على الأهداف التحرّرية المركزية في كلّ مرحلة وعبر بناء القوة الشعبية القادرة والمقاتلة المتكيفة مع أسوأ الظروف وأصعبها وبعناد قلّ نظيره في صنع المستحيل واقتحامه غير آبه بالتكالب الاستعماري الصهيوني الرجعي، فانتزع بالتضحيات وبالفطنة السياسية واليقظة الدائمة انتصاراته من براثن عتاة العدوان والهيمنة، وأنتج بوهج انتصاراته مزيداً من الظواهر التي تسعى للتماهي مع تجربته الخلاقة في المحيط العربي.

الفكرة التي قدّمها المؤلف عن الحزب وما فاض به حواره مع رئيس المجلس التنفيذي السيد هاشم صفي الدين تناسب واقعياً تجربته وتقدّم نسيجه الفكري والثقافي بدون إسقاطات لنماذج مسبقة أو سابقة بل من خلال البحث التاريخي الواقعي في ثنايا التجربة بذاتها منذ انطلاق الحزب كحركة مقاومة بعد احتلال لبنان عام 1982 وبمواكبة تطوّرها ومسار تحالفاتها وعلاقاتها وتعاملها مع محطات الاختلاف والتمايز، وقام بتحقيبها في مراحل نموّها وصعودها وخلال ملاحمها المتعدّدة حتى التحرير الكبير وما بعده إلى ان بات حزب الله حقيقة استراتيجية عربية وإقليمية يخافها المعسكر المعادي ويجهد لمحاصرتها والتضييق عليها.

فكرة التناقض الرئيسي التي جسّدها فكر حزب الله شهدناها في تجارب تحرّرية سابقة لشعوب أخرى لكنها مع هذا الحزب كانت موضوعاً لإبداع فكري وسياسي وعقائدي تجمع بين الوعي التجريبي والتكوين العقائدي الصلب.

في قلب منهج حزب الله مبدأ ستراتيجي واقعي منبثق من حقيقة النضال التحرري الذي ينطلق من وعي تاريخي لمبدأ أنّ التناقض الجوهري هو مع منظومة الهيمنة الاستعمارية الصهيونية الرجعية التي يوحّدها السيد الأميركي تحت لوائه ويحشد إمكاناتها وقدراتها في معاركه الخشنة والناعمة ضدّ نزعة التحرّر والاستقلال التي يعبّر عنها حزب الله من وطنه لبنان ويشعّ بها بقوة النموذج لتنتشر كعدوى شعبية وتلهم الطلائع المناضلة في كلّ مكان.

بنتيجة التداعيات الثقافية لتجربة حزب الله انبثقت حركات شعبية مناضلة ومقاتلة في فلسطين والعراق واليمن تتطلع إلى التماهي مع الحزب الذي خاض معركة التصدي للغزوة الاستعمارية في السنوات الأخيرة على مستوى المنطقة عندما زجّ العدو الإمبريالي الصهيوني الرجعي بقواه كلها خلف عصابات التكفير من القاعدة وداعش لتدمير المنطقة وللتخلص من محور المقاومة الذي انتزع زمام المبادرة من الكيان الصهيوني وحلفه الإمبريالي الرجعي، فأتقن حزب الله مجابهة خطط الفتنة المذهبية فكرياً وثقافياً وسياسياً وجسّد التزامه بالوحدة الوطنية في أصعب الظروف، بينما قدّم قوة النموذج في مجابهة أعتى قوى العدوان وانتصر في الحرب الأشدّ صعوبة.

برهنت التجربة منذ أربعين عاماً استعصاء أحلام التغيير القطرية داخل بلد كلبنان بمعزل عن مصير المنطقة العربية نتيجة وحدة منظومة الهيمنة وتناغمها وفي حصيلة التشابكات الموضوعية التي لا يمكن تجاوزها او تخطيها، فمنذ السبعينيات كان النضال الوطني في لبنان تجسيداً للصراع الكلي ضدّ منظومة الهيمنة، ولم يكن ممكناً عزل ما يجري في هذا البلد عن مسار تصفية قضية فلسطين ومحاولات إخضاع القلعة السورية المقاومة التي اعترضت طريق تصفية قضية فلسطين وجابهت محاولة تثبيت الهيمنة الاستعمارية الصهيونية على المنطقة، وكان احتضانها ودعمها لحزب الله أهمّ روافد استراتيجية إدارة الصراع التي أرساها القائد حافظ الأسد وطوّرها الرئيس بشار الأسد بالشراكة العميقة مع السيد حسن نصرالله.

وجد الحزب نفسه معنياً بجميع ساحات المواجهة بالموقف السياسي وبالجهد النضالي وبالقتال حيث يجب أن يكون دفاعاً عن مبدأ التحرّر والاستقلال، وهكذا تعاظمت قدرات هذا الحزب الذي شرح الكاتب ملامح وطنيته اللبنانية وعروبته وتطلعه التحرّري الإسلامي والإنساني الأبعد مدى من خلال علاقته العضوية بقلعة التحرّر والاستقلال في الشرق إيران التي كانت سنداً له منذ لحظة انبثاقه مشروعاً للمقاومة والتحرير.

لم يقدّم الحزب كما نوّه الكاتب نظرية مسبقة تختصر الاستراتيجية التي نسجها وراكم عناصرها وعناوينها في سياق تصدّيه للتحديات والمستجدات بل ترك إنجازاته تتكلم عنه وما نستنتجه من سلوكه لبنانياً وعربياً هو انه يعتنق مبدأ وحدة الصراع ضدّ منظومة الهيمنة بجميع أطرافها وأدواتها كأولوية تفرض قبول الممكن المتواضع في الداخل بما يتيح حماية خيار المقاومة واستمرارها وتجدّدها وفاعليتها في منظومة الدفاع الوطني وردع العدو.

برهنت التجربة الحية على انّ التطلع إلى التغيير الذي ينهي الهيمنة الاستعمارية والوصاية الأجنبية هو مسار تاريخي على مستوى المنطقة العربية وأيّ تجاهل لهذه الحقيقة سيقود إلى تحمّل تبعات وتناقضات وتعقيدات يصعب صدّها او تفكيكها او التعامل معها على صعيد كلّ بلد بمفرده داخل علب سايكس بيكو.

الدليل الساطع هو انّ واقع لبنان والعراق الطائفي يفرض المساكنة مع المحور المعادي في قلب توازنات السلطة السياسية التي يصبو كثيرون إلى تغييرها ويطرحون السؤال الساذج عن عدم تطلع حزب الله إلى انقلاب ثوري سيكون عالي الكلفة إنْ وقع وربما يستجرّ تعقيدات أدهى مما سبق ويتيح للعدو الإمبرالي الصهيوني الرجعي سبلاً لتوسيع تدخلاته كما برهنت الحرب الأهلية في لبنان.

الصراع الذي يخوضه الحلف الاستعماري ضدّ إرادة التحرّر بعد هزائمه العسكرية مستمرّ بالعقوبات والحصار طالما أنّ قدرة المقاومة ومعادلة التحامها بالجيش والشعب تتيح صدّ العدوان الأجنبي والنصر على جبروت الغزو ولكن حماية لبنان من غزوة داعش والقاعدة التي قادها الاستعمار الغربي والعدو الصهيوني والمعسكر الرجعي العربي اقتضت من الحزب قتالاً على أرض سورية ونقلاً لخبرته وقدراته وأسلوبه النضالي وتعميماً لمدرسته في العراق وهو شكل الحاضن للأنوية التحرّرية المقاومة حيث أمكن أو تسنى له ذلك وهو ما يسمّيه البعض بحزب الله الإقليمي لأنّ فعل التحرير والاستقلال في ممارسة الحزب الواقعية هو عملية قومية إقليمية عابرة للحدود الكيانية شئنا أم أبينا.

في قلب فلسفة القوة الكتاب الهامّ والتنويري خط سحري يشير إلى هذه الحقيقة المكتومة وغير المصرّح عنها على جري الأحزاب وتجاربها في العديد من بلداننا، فحزب الله يخوض الصراع بتواضع الأهداف والسقوف حين يتصل الأمر بشؤون الداخل وهو واضح وصارم في التصدي للعدو الرئيسي مجسّداً بالحلف الاستعماري الصهيوني الرجعي وتلك حقيقة ساطعة هي سرّ استراتيجية الحزب وعنصر قوته الحاسم وتواضعه وواقعيته وحرصه على عدم إعلانه أهدافاً كبرى لم ينضج الوعي الشعبي لاحتضانها ناهيك عن النضال لتحقيقها وتحمّل التبعات والكلفة التي يقتضيها الإنجاز التاريخي المنشود وهو ما حرص عليه حزب الله في جميع محطات مسيرته كما برهن الكتاب في عرضه لجميع المراحل السابقة من تاريخه.

بالوعي والخبرة المتراكمين سيكون حزب الله جديراً بتحدّي التعامل مع كيفية التطوير التدريجي لمعادلات تغيير داخلي تناسب التحديات بمنظور الحفاظ على إنجازات المقاومة وتوسيع فرص تطوير حركة التحرّر والتمرّد الاستقلالي في محيطه القومي وبيئته الاستراتيجية لحلّ التناقض الرئيسي في المدى الأوسع.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى