هل كانت الأيديولوجيا قبل الأيديولوجيا؟

د. علي نسر

ليس الانتماء حكراً على عصر ومكان محدّدين، إنّما هو يواكب حركة الإنسان الذي وجد نفسه في هذا الكون دفعة واحدة، وراح يبحث عن ماهيّته وعمّا يحدّد هويّته الحياتيّة. ومن الطبيعي أن تكون الأفكار مرافقة لحركته الوجودية، يتبنّى ما يريد وما يناسب تطلعاته، ويرمي ما يراه تضليلاً وخطراً. وبهذا تكون الأيديولوجيا رفيقة درب الإنسان منذ القدم، وإن لم تظهر كعلم أو كمفهوم قبل القرن الثامن عشر، نظراً إلى عدم الحاجة إلى وجودها، كما يقول الباحث عبدالله العروي الذي يرى أنّه قبل القرن الثامن عشر كانت هناك ملاحظات تؤلّف نظريات شبيهة بنظريات الأدلوجة، ولم يكن لها حضور لعدم الحاجة إليها. فلطالما كان الفكر والواقع منسجمين وكأنّ ما بينهما مرآة لا تغيير في حقائقها، ومن يخالف حركة الواقع تسقط عليه التهم من قبيل مسّ الشيطان أو بتحريكه عبر قدرات غيبيّة وما شابه ذلك… وهذا ما حصل مع تعاملِ أفلاطون مع الشعراء الذين اتهمهم بالتزوير وبأنّ شيئاً باطنيّاً وراء حركتهم، ولم يرفعهم إلى مستوى الفلاسفة وأصحاب القوانين من الطبقات العليا في جمهوريته الفاضلة حتى جاء تلميذه فحرّرهم حين أشار إلى أنّ الشعراء لا يأتون بما هو كائن إنما بما يجب أن يكون… وبهذا فإنّ مفهوم الأيديولوجيا، أو الأدلوجة حسب العروي، مرتبط عضويّاً بمفهومَي التاريخ والمجتمع، ولا ينتعش أو يتبلور إلا في نطاق نظريّة اجتماعيّة وتاريخيّة متكاملتين. وبهذا تتكرّس فكرة دور الصراع الحياتي القائم منذ الوجود الأوّل، وفعاليته في تحريك عجلة الحياة كما يرى الماركسيون، إذ لا زمان ولا مكان، قديماً وحديثاً ومستقبلاً، خاليان من الصراع، حيث إنّ المجتمع الوحيد الخالي من الصراع هو الّذي صوّرته الأديان السماوية في الجنّة، خارج الحياة. وما عدا ذلك فإنّ الصراع هو ضريبة الحياة وشرطها، وبدونه نصبح خارجها. قد يضعف أو يستكين أو يقمع، لكنّه سرعان ما ينتفض ليؤكّد أن الإنسان لا يزال في الحياة، وأنّ الحياة مستمرّة والتاريخ مستمرّ، أقلّه في المفهوم الذي لنا حتّى الآن عن الإنسان والحياة والتاريخ. وإذا كانت نظرية المحاكاة قد شهدت روح الأيديولوجيا نقداً أدبيّاً وتحليلاً اجتماعيّاً، فإنّ الصراعات الفكرية التي شهدتها الفرق الكلاميّة الإسلامية تعدّ حاضناً لافتاً لحركة الأيديولجيا. وهذا يعود إلى ما قبل القرن الثامن عشر الذي يلمح العروي إلى حصر الايديولوجيا فيه وإن كان قد أشار إلى ما أظهرته الحروب الكلامية بين الفرق من هذا القبيل، وهذا ما نلاحظه اليوم من حروب ما زالت نتائج الصراعات القديمة وما أفرزته من أفكار تديرها رغم انتفاء أصحابها وعوامل ظهورها..

وهذا ما يؤكّد، أنّ أيّة ايديولوجيا، يرى أصحابها أنها الحقيقة الوحيدة الجانب، فتتعارك على مختلف المسارح الوجودية ومنها الأدب، ما يؤّدي إلى نتائج فيها من العنف والموت والإقصاء الكثير. وهذا يتوقّف على مستخدمي الأفكار وليس على الأفكار نفسها، فلا يعرف التاريخ العريق في صراع الأفكار ضحايا، ولو كانت الأفكار بذاتها قادرة على القتل لكانت البشرية قد أبيدت. وقد تنبّه المتنبّي إلى ذلك منذ قرون، مشيرًا إلى تجريد الفكرة من سمة الحوار وتحميلها ما هو قابل للطعن، فيقول:

كلّما أنبت الزّمان قناة ركّب المرء في القناة سنانا

ويعدّ الأدب، الوعاء الأكبر، والمرجل الأمهر في عمليّة استيعاب حركة الحياة وما تقدّمه من موضوعات، وقد أثبت أن الحركة الأيديولوجية كانت موجودة وبقوة بين الفرق الكلامية، وقد انقسم الناس حيالها حكّامًا وجمهورًا، وانعكس ذلك في الأدب كنتيجة لأية حركة اجتماعية وفكرية وسياسية، فعكستها النتاجات الأدبيّة وحافظت على إبقائها ذات دور فكريّ ثقافيّ تحلو فيه الحوارات والصراعات.

وأكثر ما ظهر ذلك على صعيد المثال وليس الحصر، في ما أفرغه الشّاعر العباسيّ أبو نوّاس في قصيدته الشهيرة «دع عنك لومي» من طروح فكرية أيديولوجية ردًّا على صديقه الشيخ ذي الفكر الاعتزاليّ نفسه. فقد ظهر النفس الايديولوجي الاعتزالي واضحاً، حين تحدّث عن القدرية، واستغلّ مناسبة القصيدة لترويج ما يحمله من مذهب فلسفي.

«دارت على فتية دان الزمان لهم فما يصيبهمُ إلا بما شاؤوا».

ولم يكتفِ الشاعر بذلك، إنّما نراه يحمّل نصّه حمولة أيديولوجية أخرى، حيث الظهور الواضح لنزعته الشعوبيّة الأدبية والسخرية من الوقوف على الأطلال، ثمّ التحامل على العرب ومعايرتهم بطريقة عيشهم وطبيعة حياتهم الاجتماعية والسكنية حيث التنقّل المستمر والإقامة جانب الحيوانات.

«لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلةٍ كانت تحلّ بها هندٌ وأسماءُ

حاشا لدرّة أن تُبنى الخيام لها أو أن تروح عليها الابل والشاءُ».

عوّدتنا الحياة، أنّ ما ينتجه الواقع، أو يخلقه الإنسان نتيجة ظروف تستدعي وجوده، نسقطه مع الأيام وتعاقب الأزمان، على عقولنا والقلوب، إسقاطًا ونتقبّله من دون تحليل وتفكير، فيتحكّم بنا ونصبح مقيّدين به متناسين ظروف ولادته، ويستحيل قانونًا تصوّب أصابع الشبهة على مَن يحاول نقده والمسّ بقدسيته التي نحيطه بها خوفًا أو عدم معرفة، إذ إنّه مشيئة يجب الانصياع لها والإقرار بقدرها. وهذا ليس جديدًا، فالحياة قائمة على تحكّم قوانين من صنع الإنسان بصانعها نفسه، وكأنّ هذا ميلٌ إلى تحويل أوضاع من خلقنا إلى أوضاع طبيعية. إنّها عادة عريقة في التاريخ. إننا نخلق أوّلاً وضعًا معيّنًا بسبب أوضاع وتحدّيات معيّنة، ثم نصفه بأنّه وضعٌ طبيعيّ، فننظر إليه وكأنه جزء من النظام الطبيعي ذاته.

وأكثر ما ينعكس ذلك في حركة الناس الفكرية والثقافية، إذ غالبًا ما تتضافر ظروف وعوامل حياتية في خلق نصّ أدبي، أو ولادة فكر وفلسفة ما، ويتحّول هذا الخلق، من نتيجة لأسباب اجتماعية، إلى أسباب تسهم في إنتاج ثقافات وفلسفات انطلاقًا منها… ومعنى ذلك أننا ننظر إلى العقل بوصفه عقلاً مكوّنًا أيّ فاعلية منتجة لثقافة، وعقلاً مكوّنًا أي مجموع المبادئ والقواعد الفكرية المؤسسة لتلك الفاعلية والتي تشكّل في الوقت ذاته القاعدة الابستمولوجية لتلك الثقافة أو نظامها المعرفي. وبهذا غالبًا، ما يتحوّل ما كان منتَجًا ثقافيًّا، إلى منتِج ثقافيّ يولّد نتاجات مِن رحمه ويدير دفة حركتها كضابط لها.

لكنّ الخطر الأكبر، يكمن في وجود نصوص أدبية، أو أفكار فلسفية، أو ايديولوجيات أفرزتها صراعات كان لها أسبابها، فظلّت مسيطرة تحرّكنا بجهازها الخاص بدل خمود جمرتها مع انتفاء عوامل وجودها، فتحوّل وجودها إلى منتِج فكريّ وثقافيّ وفلسفيّ. فكثيرًا، ما نتبنّى شعاراتٍ وأقوالاً وأبياتًا شعرية أو نصوصًا أدبيّة، ونسقطها على واقع يختلف عن واقع ولادتها، ونقنع أنفسنا أنها تصلح لكلّ عصر ومكان. وكثيرة هي الأفكار، التي ترجمت أبياتاً وقصائد، لا تتجاوز حدود الخواطر الوجدانية، أو أن تكون فكرة شعّت في ذهن الشاعر نتيجة تجربة خاصة، تصلح لزمن ومكان محددين، وقد تؤدّي الظروف لاحقًا إلى قول ما يتناقض مع هذه الأفكار من صاحبها الشاعر أو المفكّر نفسه… فكم هي وفيرة، تلك الخواطر الشعرية، التي نستنكرها ونرفض دلالاتها لما تحمله من أفكار لا تتناسب مع ما نفكّر فيه ونسعى إلى تحقيقه، لكن سرعان ما تستحيل تلك الشعارات المرفوضة، ضربًا من ضروب الحكمة التي تنسحب على كلّ الأزمان رغم تقلّب طبيعة الحياة.. فنتبنّى ما كان مستنكرًا حين نسقط في الفعل الذي دفع هذا الشاعر أو ذاك إلى قوله ولو بانفعال متسرّع، وذلك كأوالية دفاعية نعتمدها من أجل تسويغ أفعالنا وإراحة ضمائرنا… فهل ما قاله المتنبّي على صعيد المثال لا الحصر، حين هجا العبيد بطريقة عنصرية منفّرة، نتيجة موقف خاص من كافور الاخشيدي، يمكن اعتماده شعارًا ذا قيمة؟؟ أليس هو القائل ما نشجبه جميعًا ونلوم صاحبه على عدم الاعتذار والتراجع عنه:

«العبد ليس لحرٍّ صالحٍ بأخٍ لو أنّه في ثياب الحرّ مولودُ

لا تشترِ العبدَ إلا والعصا معه إنّ العبيد لأنجاس مناكيدُ

ما يقبض الموت نفسًا من نفوسهم إلا وفي يده من نتنها عودُ»

نستنكر مثل هذا الموقف الأيديولوجي المتطرّف، حتى نقع في ما يجعلنا نعتمده للدفاع عن فعل مرفوض…

وحين نسقط في حفرة من التشاؤم، تصبح الحياة كلّها تعباً ونتعجب ممن يقبل عليها، كما تستحيل الدنيا جيفة نتهافت عليها كما يقول المعرّي.

«أصاح هي الدنيا تشابه جيفةً ونحن حواليها الكلاب النوابحُ

فمن ظلّ منها آكلا فهو خاسرٌ ومَن عاد عنها ساغبًا فهو رابحُ»

وهكذا، يمكن القول: إنّ الناس عبيد أفكارهم، ينتجون في ظروف معيّنة أفكاراً تستدعي وجودها حياةٌ ما، فتستحيل هذه الأفكار قوانين ونواميس طبيعية شبه مقدّسة، ما يولّد أزمة، وهي أزمة تعود إلى عدم امتلاك وعي بالتاريخ بقدر ما نمتلك حافظة تلقّنت القواعد العامّة، وما زالت تقود بترديد مهارتها بلا تعب. أمّا مقاربة الظروف والملابسات الفكرية والاجتماعية والتاريخية التي كوّنت هذه القواعد وساهمت في نموّها وتطويرها فهي المفقودة. ما يجعلنا متكيّفين مع فكرة أنّ السلف الأقدم هو الأكثر معرفة من الخلف الحالي أو القادم. وبهذا يتحكّم بأفكارنا الماضي الأقرب إلى الصفاء حسب ما هو مترسّب في الأذهان، رغم أنّ الخلف ينبغي أن يكون أكثر معرفة ودراية من سلفه لما يحمله من علم الألى ومن علوم ومعارف متراكمة لم تتسنّ لهم، لأنّ المتأخّر يقف على أكتاف المتقدّم، أي على وعي الأسلاف مضافًا إليه وعي عصره. وهذا ما يمنحه اتّساعًا في الرؤية لم يكن متاحًا للأسلاف. فإنّ ادعاء السّلف أنهم أكثر فهمًا، هو ادّعاء غير علميّ ويفترض أنّ المعرفة تقف عند نقطة لا تتبدّل ولا تتقدّم، وهو بالاضافة إلى ما واكبته البشرية من تراكم معرفيّ لم يكن متاحًا للسلف.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى