هل يكون للبنان حكومته «الوطنية»؟

د. وفيق إبراهيم

هذه إشكالية تاريخية ترقى الى بدايات تأسيس الكيان اللبناني وتضع البلد في قفص مصالح الخارج على حساب متطلبات الداخل ومن دون أي اعتراض.

أسباب هذا الانطباع الداخلي نحو الخارج الإقليمي والدولي والاستعانة به للترجيح الداخلي، إنما تعود الى الطبيعة الطائفية للنظام السياسي اللبناني ومذهبيته.

فلا تفعل قوى المذاهب والطوائف إلا الاستقواء بالخارج لمنافسة بعضها بعضاً عبر الالتزام الكامل بمصالح الإقليم، لذلك فهي ضعيفة دائماً لانها تُمثل جهة واحدة مقابل جهات أخرى كثيرة لا تواليها، وهذه بدورها تستقوي بإقليم آخر وهكذا دواليك.

لكن لا يجوز الإنكار مطلقاً بأن الدولة التي لا تتفاعل مع الخارج غير موجودة ومنذ ثلاثة قرون ونيّف متواصلة. فنظام التحالفات والمصالح يفرض على الدول أنظمة تقارب وتحالفات بشكل يشبكُ بقوة بين الداخل والخارج. إنما مع شيء من الغلبة للسلطات الداخلية.

ما يحدث في لبنان لا يشبه لا التقوقع الداخلي ولا الغلو في الاعتماد على الخارج، هناك مكوّنات طائفية تتوزّع السلطات الدستورية وتوالي جهات إقليمية دولية تدعمها في صراعاتها الداخلية أو تهبها وزناً راجحاً موصوفاً ما أدى الى تشكل ولايات مذهبية تتراجع وتتقدم تبعاً لاوضاع رعاتها الإقليميين فتتقدم معهم وتنكسر معهم مع الحفاظ على الخطوط العامة التي يحفظها الميثاق الوطني للطوائف بالحد الادنى.

لدينا ثلاثة نماذج توالت وقدمت تطوراً نسبياً في حركة التفاعلات المذكورة بدأت بالمارونية السياسية التي عسكت خارجياً سيطرة الانتداب الفرنسي على بلاد الشام. فقسم الفرنسيون مناطق نفوذهم بعد تجارب عدة فاشلة الى اسكندرون وهبوه لتركيا ومتخلين عن الأردن للبريطانيين الذين حوّلوه عرشاً هاشمياً ومتجاهلين لتخلي الانتداب البريطاني عن فلسطين القسم الجنوبي من سورية لصالح اليهود وأسسوا دولة لبنان الكبير بهيمنة للمارونية السياسية تاركين الجزء الأكبر لدولة سورية الحالية.

لقد سيطرت المارونية السياسية على البلاد حتى قبل تأسيس الكيان أي منذ عشرينات القرن الماضي بدعم فرنسي مطلق. فهيمنت على الطوائف والمذاهب من دون أن تتقدم نحو مبادرات وطنية تؤدي الى اتحادات وطنية واسعة.

ما أدّى الى تراجعها الداخلي هو الانحسار التدريجي للنفوذ الغربي الذي أصبح يعتبر علاقاته بإمارات وممالك الخليج أكثر أهمية من علاقاته القديمة، كما أن الصراع العربي الإسرائيلي أنقص الدور الإسرائيلي لمصلحة تطوّر الادوار المصرية السورية الفلسطينية ومع بضعة حروب أهلية تراجعت المارونية السياسية وصعدت قوى إسلامية متحالفة مع سورية وإيران والسعودية الا أن النفوذ الاميركي السعودي نجح في إقطاع لبنان لمرحلة المرحوم الرئيس رفيق الحريري رجل الأعمال السعودي من اصول لبنانية.

قدم هذا «الرجل القوي» نفسه على اساس أنه مشروع وطني بانياً قوته على ركائز سعودية اميركية وسرعان ما دعمها بجذب السوريين الى أسس سياسية ممسكاً عبر قنوات فرنسية اميركية بالرهبنات المسيحية وكامل قواها السياسية التقليدية، فتحوّل قائداً يستطيع أن يؤسس لمرحلة وطنية. لكنه آثر بناء تحالفات مع القوى الإسلامية على قاعدة استرضاء رئيس المجلس النيابي نبيه بري والوزير جنبلاط مطبقاً نظرية «الدين» للإنماء على قطاعات غير منتجة، ومعتقداً ان السلام مع «إسرائيل» كما كان يقول اكثر من مرة قاب قوسين او ادنى ما ينعكس على لبنان تطوراً اقتصادياً كبيراً ومراكماً نحو خمسين مليار دولار ديناً حتى تاريخ اغتياله، وهو دين ازداد مع حكومات ابنه سعد الى مئة مليار دولار في بلد لا ينتج شيئاً وموارده من الخدمات مشلولة.

الا أن ارتفاع حدة الصراع الاميركي الفرنسي الإسرائيلي وبالتالي السعودية مع المحور السوري الإيراني حشر الحريري في زاوية ضيقة عاد فيها الى الركائز الأصلية لسياساته وهم السعوديون والاميركيون والفرنسيون فتحوّل مشروعه الداخلي بشكل كامل الى محاولات لبناء تحالفات بين المسيحيين والسنة.

هناك أسباب لتعثر مشروعه أولها: نجاح حزب الله في تحرير جنوب لبنان في 18 سنة من قتال ضار صعد فيها الى مرتبة النجم الإقليمي وكرّسها في حرب 2006 فأصبح ركيزة داخلية لبنانية غير قابلة للتجاوز على الرغم من أن الحزب لم يكن يولي الداخل اللبناني الا القليل من الاهتمام.

يتبين أن مشروع رفيق الحريري تعثر داخلياً لتفاقم الصراع الإقليمي. فالرجل كان في العمق منتمياً لمحور غربي سعودي يمرّ في مرحلة مجابهة مع قوى لعل أبرزها حزب الله الإقليمي ذي الأفرع الإقليمية.

لقد أدت هذه المراحل الى بناء المعادلات التالية: انتصارات الحزب جعلته ركناً إقليمياً وازناً وفريقاً لبنانياً له تحالفاته الإقليمية، لكنه لا يحتاج للعودة اليها في أزمات الداخل، مقابل حريرية سياسية تراجعت مع تقلص النفوذ الغربي السعودي وباتت عليها مراجعة الإقليم في كل كبيرة وصغيرة. وهذا حال أحزاب القوات والتقدمي الاشتراكي والكتائب الذين لا يستطيعون اتخاذ أي موقف خارجي او داخلي الا بعد العودة الى أولياء الأمور في الإقليم العربي والغرب. وبعض هؤلاء يستشير روسيا.

إن ما راكم من صنمية هذه المعادلات هو نجاح حزب الله «الأسطوري» في الانتصارات على الإرهاب في سورية وشرقي لبنان مع مزيد من إضعاف قوى الداخل اللبناني المتكئة على المحور الخليجي الأميركي.

فكيف يمكن لقوى مهزومة في الداخل والخارج أن تشكل حكومة وكأن شيئاً لم يحدث في ميادين سورية وجبال لبنان وارض الرافدين واليمن السعيد، فحزب الله موجود في معظم هذه المناطق مباشرة أو بنظرية تقليده في جهادياته الملحمية.

لقد تصرّف الرئيس سعد الحريري في تشكيل الحكومة المرتقبة على قاعدة تجاهل مسألتين اثنتين: الاولى المكانة السياسية والعسكرية الكبيرة لحزب الله في الإقليم، ونتائج الانتخابات متصرفاً وكأن الأمور لا تزال في آخر مرحلة أبيه في التسعينيات، متوهماً ان الحزب يريد اي حكومة للفرار من العقوبات الاميركية عليه وعلى حليفته إيران.

بناء عليه يجب على كل القوى اللبنانية من كامل الاتجاهات الإقليمية أن تعرف أن حزب الله يمتلك جناحاً إقليمياً وجنوبياً في وجه الكيان الصهيوني الغاصب الى جانب جناح لبناني صرف يهتم بالتأسيس لانتقال لبنان من عصر الطوائف التي تعيق تطور البلاد الى زمن وطني قد لا يكسر معادلات الطوائف، لكنه يحاصرها ضمن أهداف وطنية تدافع عن لبنان في وجه «إسرائيل» وحلفائها العرب، وتهتم بالتصدي للفساد وتحويل البنى الدستورية مؤسسات تدافع عن الوطن ولا تهتم بسرقة المال العام فقط.

وإذا كانت المارونية السياسية تراجعت لأسباب دولية وإقليمية وداخلية، وإذا كانت الحريرية السياسية سقطت لتماهيها الكامل مع المشروع الاميركي الفرنسي الإسرائيلي المصرّ على تحطيم حزب الله مع السيطرة على التفاعلات السياسية في الداخل، فإن مشروع حزب الله هو اعادة بناء دولة تهتم بمصالح الناس وسيادة الدولة على اراضيها واجوائها وثرواتها في البحر والبر، بعيداً من الفكر المذهبي والطائفي وعلى قاعدة احترام الأديان وتشكيل حكومة وطنية تُمثل نتائج الانتخابات الأخيرة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى