الانتخابات الأميركية النصفية: عندما تصطدم الجغرافيا بالديموغرافيا

زياد حافظ

رغم التركيز الإعلامي غير المسبوق في الولايات المتحدة والعالم حول مغزى الانتخابات النصفية للكونغرس الأميركي إلاّ أنها لم تأت بالمفاجآت التي كانت متوّقعة وخاصة في ما يتعلق بـ «الموجة الزرقاء» أي اكتساح الحزب الديمقراطي للمقاعد في مجلس النوّاب والشيوخ. أراد الرئيس الأميركي أن تكون الانتخابات استفتاءً على أدائه ومواقفه فكانت إلى حدّ ما أراده. أعتقد الحزب الديمقراطي والإعلام المهيمن الذي أبدى معاداة للرئيس الأميركي منذ فوزه في الانتخابات الرئاسية أن شخصية الرئيس وغلوه في الكلام غير المتوازن وتقلّب مواقفه تكفي لقلب الرأي العام ضده. بينما اعتبر الرئيس الأميركي أن الديمقراطيين لم يقبلوا بالهزيمة عام 2016 وكذلك الإعلام المهيمن الذي لا يخفي احتقاره لناخبي الرئيس ترامب. غير أن ذلك الاستفتاء لم يغيّر أي شيء ملحوظ في المعادلة الداخلية بل كرّس الانقسام العمودي والأفقي بين الناخبين بشكل عام ولكن بشكل أكثر خطورة في تهديده للتماسك الاجتماعي والوطني. فقاعدة ترامب ما زالت متماسكة بينما شهد الحزب الديمقراطي أقبالا كبيرا من الشباب والنساء والأقليّات. فهؤلاء تاريخيا مع الحزب الديمقراطي غير أن حماستهم هذه السنة الانتخابية كانت لافتة. لكن هل تغيّر شيء؟

في رأينا نعم. هناك دلالات كبيرة يمكن استنتاجها من نتائج الانتخابات. فالقراءة المتأنية لتلك الانتخابات توصلنا إلى قناعة أن الجغرافيا اصطدمت بالديموغرافيا. فالانقسام العمودي والأفقي يشمل تموضع الحزب الجمهوري في المناطق الريفية وفي الولايات الأقلّ رخاء اقتصادياً بشكل عام مع بعض الاستثناءات بينما الحزب الديمقراطي تموضع أيضاً مع بعض الاستثناءات في الولايات الأكثر رخاء والمدن وبين الأقلّيات وبين الشباب والنساء. ويعتبر البعض أن فوز الديمقراطيين وإن كان بفوارق ضئيلة كان بمثابة ثورة في ضواحي المدن على الريف وعلى سياسات البيت الأبيض التي ساهمت من حيث تدري أو لا تدري في تجنيد النساء والشباب للتصويت في الانتخابات النصفية. كما أن الانقسام أخذ طابعاً عنصرياً إلى حد ما حيث ظهر أن الحزب الجمهوري حزب الأكثرية البيضاء والمتوسّطين والمتقدّمين في السن بينما الحزب الديمقراطي ظهر انه حزب النساء والأقلّيات العرقية السمراء والصفراء والسوداء وخاصة بين الشباب الذين هم دون الـ 35 سنة من العمر. فالريف كان في موقع معاكس للمدينة ومع الجمهوريين بينما الأقلّيات العرقية والدينية اختارت الحزب الديمقراطي وتواجدت في المدن الكبرى وخاصة على الشواطئ الشرقية والغربية للولايات المتحدة.

أما على الصعيد الاقتصادي الاجتماعي فأفادت دراسة نشرها معهد بروكنز المرموق أن الفجوة الاقتصادية تعمّقت بين الناخبين الجمهوريين والديمقراطيين. فالآخرون أكثر رخاء اقتصادياً ويعملون في القطاعات الأكثر إنتاجية بينما الجمهوريون أقلّ علماً على المستوى الجامعي ويعملون في القطاعات الاقتصادية الأقلّ إنتاجية.

لكن هذه اللوحة يجب أن تكون مقلقة للحزبين. فإذا كانت القاعدة الصفرية هي التي تتحكّم بذهنية القيادات الحزبية فإن التقدّم الملحوظ عند الديمقراطيين وإن بفوارق بسيطة يعني تراجعاً في المدى المتوسط على الأقل في ريادة الحزب الجمهوري في العديد من المناطق التي خسر مقاعد فيها. حتى الفوز ببعض المقاعد في مجلس الشيوخ لم يكن بفارق كبير بل أقل من واحد بالمئة من الأصوات. فولاية مثل ولاية تكساس كاد يذهب المقعد الجمهوري للمرشح الديمقراطي الشاب بيتو اورورك. فاز الشيخ الجمهوري تيد كروز ولكن بفارق أقل من واحد بالمئة. هنا الديمغرافية لعبت دورها فالشباب والأقلّيات اللاتينية والنساء توجّهوا بكثافة للاقتراع لمصلحة أورورك. هذا يعني أن المعقل الجمهوري في ولاية كبيرة كولاية تكساس قد يتحوّل إلى قاعدة للحزب الديمقراطي أو أن الحزب الديمقراطي قد يصبح شريكاً أساسياً مع الحزب الجمهوري في تلك الولاية البالغة الأهمية لحجمها واقتصادها وعدد سكّانها. فهي الولاية الثانية بعد كاليفورنيا ومن يتحكم بالولاية يعزّز فرصة في النجاح في الانتخابات الرئاسية.

في ما يتعلّق بالولايات المتنازعة عليها بين الجمهوريين والديمقراطيين كولاية فلوريدا فالفوز الجمهوري بأقل من نصف بالمئة من الأصوات ينذر بخسارة الولاية في الانتخابات المقبلة إذا لم يقبل الحزب الجمهوري على توسيع قاعدته الانتخابية وضم قسم من الأقلّيات التي صوّتت بكثافة لصالح المرشح الديمقراطي. وهذه الخسارة قد تكون مفصلية للمرشح الجمهوري للرئاسة. فلا مرشّح يصل إلى البيت الأبيض إن خسر ولاية فلوريدا. لكن هذه التحوّلات لا تعني بالضرورة تفوّق الحزب الديمقراطي بسبب كثافة أصوات الشباب والأقلّيات. فبات واضحاً أن الوسطية داخل الحزبين تعرّضت إلى اهتزاز كبير. فالنوّاب الجدد من الحزب الديمقراطي من القاعدة التقدّمية كما يصفون أنفسهم والمتعاطفة مع طروحات الشيخ الديمقراطي برني سندرز الذي سلبت تسميته للرئاسة عن الحزب الديمقراطي هيلاري كلنتون بسبب تواطؤ القيادات الحزبية الديمقراطية. فالنوّاب الجدد من الحزب الديمقراطي أكثر «يسارية» من قيادتهم. وهذا قد يخلق تصدّعا داخل الحزب الذي يتّبع نهج الوسطية كما فعل الرئيس كلنتون والرئيس اوباما والتناغم مع المؤسسات المالية والشركات الكبرى. والجدير بالذكر أن معظم الفائزين الديمقراطيين الجدد من الجالية اليهودية غير أن معظمهم على تناقض مع سياسات الكيان الصهيوني ومع القيادات الديمقراطية التقليدية. أما في الحزب الجمهوري فالنوّاب الذين فشلوا في الحفاظ على مقاعدهم معظمهم من المتحفّظين على سياسات الرئيس الأميركي الذي لم يُخفِ برودته في دعمه لهم في الدوائر الإقليمية بينما دعم بشكل واضح المتشدّدين على صعيد الولايات كما حصل مع خصمه اللدود تيد كروز في ولاية تكساس. والعبرة هنا أن شعبية ترامب تظهر على صعيد الولاية أكثر من على الصعيد الدائرة الإقليمية وهذا ما يقلق الديمقراطيين. لذلك سنرى استقطاباً أكبر وأعمق بين الحزبين من جهة وبين قاعدة وقيادة الحزب الديمقراطي.

أما على صعيد الحزب الجمهوري فهناك تحوّل كبير نحو التطرّف الديني خاصة أن القاعدة الصلبة أصبحت بيد الانجيليين الجدد الذي يمثّلهم نائب الرئيس مايك بنس ووزير الخارجية مايك بومبيو. الحزب الجمهوري التقليدي المحافظ في القضايا الاجتماعية وصاحب المنحى الانعزالي في السياسة الخارجية تحوّل مع الرئيس جورج بوش الابن إلى حزب المتشدّدين دينيا في السياسة الخارجية والداخلية على حد سواء. الخطاب السياسي للرئيس ترامب يعكس ذلك التحوّل. بالمناسبة، أظهرت بعض الدراسات أن القاعدة الجمهورية أقلّ علما من القاعدة الديمقراطية مما يفسّر الازدراء الواضح الذي أظهرته المرشّحة هيلاري كلينتون بأن ناخبي ترامب من «المنبوذين»!

الانقسام بين الحزبين أصبح أكثر حدّة. فهناك خطاب عرقي بامتياز عند المرشّح الجمهوري وهناك خطاب عنصري مضاد عند المرشّح الأسود في الحزب الديمقراطي كما تبيّن في خطاب المرشحّ الديمقراطي لمقعد مجلس الشيوخ في ولاية فلوريدا ولمقعد حاكم الولاية في ولاية جورجيا. والانقسام موجود أيضاً داخل الحزب الديمقراطي بين الشباب وبين القيادات التي شاخت. فالنائب نانسي بيلوزي المرشّحة لتكون رئيسة مجلس النوّاب عمرها 78 سنة بينما أصغر نائب في مجلس النوّاب هي نائب عن ولاية نيويورك الكسندرا اوكازيو – كورتيز التي لا يتجاوز عمرها 28 سنة. وهناك تململ واضح من قبل النوّاب الجدد وغير الجدد من الشباب نسبياً من القيادات التقليدية الوسطية التي قادت الحزب الديمقراطي إلى الهزيمة في الانتخابات الرئاسية عام 2016. لكن ما يضمن حظ نانسي بيلوزي بالفوز لمقعد رئيسة مجلس النوّاب كثافة العنصر النسائي داخل المجلس، حيث وصلن إلى تشكيل ربع عدد النوّاب. فمن الصعب أن يتصوّر أحد أن بيلوزي لن تكون رئيسة مجلس النوّاب للولاية الجديدة لمجلس النوّاب.

من النتائج المتوقعة للمجلس الجديد الشلل في إنجاز التشريعات. فتصريحات العديد من قيادات الحزب الديمقراطي وعدت بتكثيف المساءلة للرئيس ترامب عبر إطلاق تحقيقات في مالية ترامب الخاصة وفي العديد من الأمور التي تخصّه وعائلته للوصول إلى شيء يؤدّي إلى اسقاطه في مجلس النوّاب ومحاكمته في مجلس الشيوخ وإن كان احتمال نجاح تلك المحاولات ضئيلاً جداً. هذا يعني أن ما كان يريده الرئيس الأميركي من إنجازه على الصعيد الداخلي لن يتحقق حتى نهاية الولاية. فمجلس النوّاب الأميركي سيعمل على إسقاط كل مشاريع التشريع الذي سيطرحها البيت الأبيض باستثناء بعض التشريعات المتعلّقة بالبنى التحتية التي تهمّ الديمقراطيين وترامب على حد سواء. بالمقابل، بسبب الأكثرية في مجلس الشيوخ لصالح الحزب الجمهوري سيسمّي الرئيس الأميركي العديد من القضاة في المحكمة العليا وفي المحاكم الاتحادية من القضاة المحافظين الذين سيؤثرون على تفسير تطبيق التشريعات الاقتصادية والاجتماعية لصالح الجهات المحافظة بشكل عام. هذا يعني المزيد من الانقسامات في المجتمع الأميركي الذي سيجد المنظومة القضائية تحكم لصالح القوى المحافظة والشركات.

اما التداعيات على السياسة الخارجية فهي محدودة، حيث كون تأثير مجلس النوّاب محدوداً على البيت الأبيض. لكن ما يستطيع مجلس النوّاب فعله هو قطع التمويل لمشاريع الحروب التي تشنّها الإدارة في مختلف انحاء العالم. كما ان مجلس النوّاب قد يسعى إلى تقليص صلاحيات الرئيس في شن حروب لكن ذلك يتطلّب موافقة مجلس الشيوخ. وهذا غير وارد الآن. لكن من المتوّقع أن يصدر مجلس النوّاب قراراً يقضي بإيقاف دعم قوى التحالف التي تشّن العدوان على اليمن وقراراً يُعيد النظر بالعلاقة مع حكومة الرياض. لكن القرار الأخير قد يواجه النقض الرئاسي ومجلس الشيوخ لن ينقض قرار الرئيس.

صدام الجغرافيا بالديموغرافيا يدلّ على أن النظام السياسي القائم على ثنائية حزبية لم يعد صالحاً للملمة الوضع الداخلي. لم يستطع الحزب الجمهوري مواكبة التغييرات الديموغرافية من جهة، كما أنه لم يستطع أن يتكيّف مع الدور الصاعد للنساء والشباب. من جهة أخرى لم يستطع أن يتحوّل الحزب الديمقراطي إلى حزب يضمّ الجميع بل أصبح عنوانه حزب الأقلّيات. في المدى البعيد لن يكون العنصر الأبيض الأكثرية بحلول عام 2050 وهذا ينذر بفقدان الهوية الانكلوساكسونية البروتستنتية البيضاء التي حذّر منها صمويل هنتنغتون قبل رحيله. فاليوم توجد أميركتان: أميركا البيضاء التي لن تقبل بسهولة هذا إذا قبلت! غروب هيمنتها. فالمجتمع الأميركي مسلّح والثقافة السائدة لحل الخلافات هي عبر العنف. أما الأميركية الملوّنة والمكوّنة من الهجرات الوافدة من الدول السمراء والسوداء والصفراء، وهي ضرورية للحفاظ على النمو السكّاني فالمشتركات مع المكّون الأبيض قد تتلاشى أمام الحقائق الجديدة التي يفرضها الواقع. مَن يعتقد أن المؤسسات الدستورية القائمة كفيلة بالحفاظ على السلم الأهلي فعليه أن يعيد النظر بذلك. والكاتب توم انجلهاردت حذّر في كتابه الهام «حكومة الظلّ» من صعود الدولة الأمنية التي تقضي على الحرّيات العامة حفاظاً على «السلم الأهلي» الذي هو في آخر المطاف سلم النخب الحاكمة والشركات المالية. والتمركز للمؤسسات المالية والإعلام بشركات لا يتجاوز عددها أصابع اليد خير دليل على ذلك. ولنا في ذلك الموضوع كلام في مكان آخر.

هذه القراءة السريعة لنتائج الانتخابات تفيد أن الانقسام الداخلي في الولايات المتحدة ظهر بقوّة لم يعُد يتنكّر لها أحد. كما أن الخلاف على معالجة الانقسام مستمرّ وليس هناك في الأفق ما يشير إلى تغلّب العقل على الغرائز والمصالح الضيّقة. فالولايات المتحدة دخلت مرحلة التراجع الاستراتيجي إن لم نقل الانحطاط والعوامل الموضوعية لتفجير الوضع الداخلي سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو حتى الثقافي أصبحت أكثر تجذّراً مما كانت عليه في السنوات الماضية.

الأمين العام السابق للمؤتمر القومي العربي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى