هل تدفع «الأحداث» نحو تشكيل سريع للحكومة؟

د. وفيق إبراهيم

للمرة الأولى منذ ظهور الحريرية السياسية على مسرح السياسة اللبنانية في 1990، يهتزّ التحالف «السطحي» بين «الولايات اللبنانية».. نعم هي ولايات مذاهب لبعضها جغرافية خاصة بها، فيما لقسم آخر منها بيئات متنوّعة.. لكنّ حقوقها السياسية والدستورية «محفوظة» وتجمع بينها دولة تتحكّم بـ «الأفراد» من دون السيطرة على «الولايات» التي ينتمون اليها.. هذا هو لبنان وما عليك إلا أن تقبل به… أو ترحل.

هناك الآن أزمة تشكيل حكومة، يتعلق بإصرار أحد اصحابها على رفض نتائج انتخابات نيابية حديثة، أفقدته أكثر من 40 في المئة من قواه التمثيلية في طائفته، لكنه يريد كالعادة كامل «الولاية» متجاهلاً خسائره وبذرائع واهية وغير متماسكة، ما أدّى إلى توتر شعبي نقله الخاسرون الى الشارع مستعينين به لإثبات قوتهم فكاد أن يخرج عن سيطرتهم، مشجّعاً الشوارع المناقضة على التحرك.. وكعادته منع حزب الله شارعه من إبداء أيّ تذمّر وبالمونة ضبط «الشوارع» الأخرى ايضاً.

لكن هذا النزاع ارتدى منحنى جديد مرتدياً ثوب تلاسن حادّ بين الرئيس المكلف سعد الحريري وجنبلاط وفريق عملهما من جهة وبين الوزير السابق وئام وهاب من جهة ثانية، حتى أدركت حدود تبادل الشتائم والاتهامات الأخلاقية.

وبسرعة، جرى تشاور بين الرئيس المكلف وجنبلاط والمدّعي العام سمير حمود على توجيه اتهام لوهاب، تلاه شنّ حملة عسكرية ضمّت مئات الآليات والمجنزرات وأفراد قوى الأمن الداخلي، في هجوم نادر لاعتقال وهاب في بلدته «الجاهلية» في عمق الشوف. للإشارة، لم يسبق لدولة لبنان الكبير أن نظمت حملة عسكرية ضخمة لجلب متهم ليدلي بإفادته أمام القضاء منذ تأسيسها.

ومرة جديدة يثبت حزب الله أنه أداة توازن تحرص على منع تهشيم المعادلة اللبنانية ولديها المقدرة المعنوية والمادية على فرض الاستقرار.

للتفسير أكثر فإنّ الحريري أراد بهذه الحملة التي تشبه الحملات التي كان يشنّها المماليك والعثمانيون على القرى الجبلية.. أراد كسر رأس وهاب، و«بهدلته» شعبياً وربما لإخافة حلفاء حزب الله في الطوائف الأخرى من مصير مشابه، خصوصاً «كتلة النواب السنة المستقلين»، معتقداً بأنّ الحزب لن يتدخل لأنّ جنبلاط يغطي هذه الحملة درزياً وجبلياً…

أما لماذا وافق جنبلاط، فيبدو أنه وجدها فرصة لكسر هذا العنفوان الذي يتمتع به وهاب، ويزيل من مركز قوته، قيادياً صاعداً له شعبية تتزايد يومياً…

لقد ظنّ محور الحريري ـ جنبلاط أنّ انهماكات حزب الله الإقليمية وإصراره على عدم الصدام الداخلي، يبيح لهما القضاء على ما كانوا يعتقدونه أنه «همروجة» وئام وهاب، ويعزّز موقعيهما في عملية تشكيل الحكومة المقبلة.

وفور تلقيهما موقف حزب الله الصارم، بوغتا به… وتلقيا صدمة، إضافية من الرئيس بري الذي تقاسم الموقف الصارم مع حزب الله، وربما بشدة أكبر.

هذا ما أدّى الى انسحاب «حملة المماليك» على بلدة الجاهلية بانكسار مادي ومعنوي، لأنها لم تؤدّ الى اعتقال وهاب، ووجدت نفسها مضطرة الى التراجع تحت ضغط موقف حزب الله، حركة أمل، فانكسر عسكرياً ومعنوياً أيضاً على الرغم من كلّ محاولات التغطية على الهزيمة في محطات التلفزة الموالين لجعجع والمستقبل، وأخرى ملتبسة تجيد فنون ركوب الأمواج والجسور.

فهل تدفع هذه الأحداث المتتالية باتجاه تشكيل سريع للحكومة؟

هناك معطيات جديدة على علاقة باستنفاذ المعطلين لكلّ وسائل إثارة الأزمات لحصر حزب الله وحلفائه في زاوية ضيقة وإرغامهم على القبول بحكومة فيها للحريري وحلفائها الغلبة او الاكتفاء بتعطيلها والإبقاء على حكومة تصريف الأعمال.. وهذا كان يعني أنّ الحريري لا يريد العزوف ولا الاستقالة والى أطول مدة ممكنة.

لقد تبيّن للحلف الجنبلاطي ـ الجعجعي ـ الحريري أنّ الطرف الآخر مستعدّ لمجابهة كلّ أنواع الأزمات السياسية والأمنية، ولديه المقدرة على تفريغ محتواها الفاسد، وأيقن أنّ الإعلام لا يصنع نصراً بقدر ما ينجح بالترويج «لفتنة» قابلة للانكشاف بسرعة. فمن كان يتابع محطتي «المستقبل» و «MTV» في اليومين الماضيين، كان يُخيّل إليه أنّ جحافل هذا الحلف أصبحت تمسك بكلّ لبنان شعبياً واقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً.

لكن أحداث الجاهلية أظهرت أنّ نصف ساعة كانت كافية لتنفس الهواء من بالونات ليس لها عضلات وإنما مجرد ألسنة.

بالاستنتاج يتبيّن أنّ هناك قوّة ثابتة ومتماسكة لا تسمح بتجاوز معطيات الانتخابات الأخيرة لناحية الإصرار على تمثيل السنة المستقلين، وإعادة توزيع المقاعد والحقائب بما يتلاءم مع أحجام القوى والكتل حسب قوتها من المجلس النيابي.

هذا عن حقائق علاقات القوة في الداخل.. لكن المعروف عن لبنان أنّ المداخلات الخارجية لها المركز الأساسي في اختيار الرؤساء وتشكيل الحكومات… فما هو وضعها اليوم.

كان المعتقد أنّ أربعة أشهر على بدء العقوبات الأميركية على إيران كافية لإسقاط نظام الجمهورية الإسلامية فيها، وها قد مضى شهران منهما ولا أثر لتراجع الأوضاع في طهران.. هذا من دون ان تبدأ آليات الدعم الأوروبي المتفق عليها مع إيران أو الإسناد الصيني والروسي.

وما حدث على مستوى أزمة اغتيال الإعلامي الخاشقجي وتوجيه التهمة لولي العهد السعودي محمد بن سلمان.. أراح الجمهورية الاسلامية لأنّ الغرب مشتبك ببعضه بعضاً بسبب اغتيال «الخاشقجي».. حتى أنّ حضور ابن سلمان لمؤتمر قمة العشرين عكس إحباطه واكتئابه مع تجاهل معظم الحاضرين من بين قوى الغرب له..

وهذا من شأنه تفكيك الحلف المعادي لإيران وتوزّعه جنب درجات العداء في ما بينها او مع الأميركيين المصرّين على براءة ولي العهد.

وهذا ينسحب تراجعاً سياسياً حاداً على مجمل القوى العربية المؤيدة لمحمد بن سلمان، ومنها رئيس الحكومة سعد الحريري الذي كان من أوائل القيادات التي برّأته من اغتيال الخاشقجي وتعمّدت التقاط صور معه في إحدى المناسبات في السعودية.

الحريري إذاً في تراجع داخلي.. يواكب تراجع في أهمية ما يتلقاه من دعم سعودي ينكبّ حالياً على معالجة أزماته مع الإقليم والعالم.

ألا يشجعه هذا الوضع المتردي على التوصل الى تسوية مع حزب الله وحلفائه في موضوع تشكيل الحكومة، خصوصاً أنّ أوراقه قابلة للاستهلاك في كلّ وقت.

المعتقد أنّ «السعد» بصدد تكليف الوزير باسيل مجدّداً لإعداد تسوية له مع السنة المستقلين برعاية الرئيس عون بذلك للحدّ من الاستمرار في التراجع الذي قد يجعله يخسر موقع رئاسة الحكومة و«بي السنة» في آن معاً، وعندها لن ينفع الندم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى