زمن سقوط الأقنعة وكشْف العورات

د. رائد المصري

بهدوء… فلقد أرادوا وبكلّ وقاحة التبرّؤ وبصورة فجّة من دماء ضحاياهم فاعتبر البعض في لبنان أنه بمجرّد قيام محمد بن سلمان بزياراته ولقي فيها بعض الاستقبالات التي لا تخرج عن إطار البروتوكلات الرسمية، يعطيهم ذلك فرصة الانقضاض على الخصوم السياسيين في لبنان وتأديبهم على الطريقة السّلمانية باستخدام أجهزة الدولة ومفتّشيها وقضائها في لعبة صارت مكشوفة أراد زعيم الحزب الاشتراكي دفع الحريري إليها والاختباء خلف الباب لإنهاء ما وصفه بالوضع الشاذ في الجبل معيداً سيناريو قرار وقف شبكة اتصالات المقاومة زمن حكومة السنيورة غير الميثاقية، حيث بقي جنبلاط ساهراً لغاية الثالثة فجراً من أجل انتزاع القرار الحكومي والدفع به إلى مواجهة دفع ثمنها الحريري وجماعته… إنها حقيقتهم المأزومة حيث أحاطوا وسيّجوا أنفسهم وأغلقوا الأبواب وبدأوا بنفخ النار المذهبية معتبرين أنها تحميهم…

ولنبدأ أولاً بإيضاح الصورة الجلية أمام الرأي العام دون زيادة أو نقصان، فربّما يجري الحريري نوعاً من «البروفا» التطبيقية بحقّ الوزير السابق وئام وهاب لقياس نجاحها تمهيداً لاستعمالها بوجه خصومه الأشدّ ونعني بهم نواب اللقاء التشاوري بغية الانقضاض عليهم مستخدماً دواعش جدد رسميين أو شعبويين لنزع مشروعيتهم وتحليل دمائهم، فمجرّد رفضه استقبال ستّة نواب كرئيس حكومة فهذا يعني أنها قمّة الإلغاء وقمّة الداعشية السياسية التي تمارس اليوم، أما بما يخصّ ملوك وأمراء ونواطير النفط العرب وحروبهم وعلاقاتهم مع الكيان الصهيوني ومشاريع الغرب، والتي أحْدثوا فيها نقلة نوعية في إعادة صياغة ورسم هذه العلاقة الكولونيالية استمراراً للنزف والاستلحاق والاستتْباع، في التقدّم الصريح على المسرح السياسي وتشكّل التحالفات العلنية مع «إسرائيل» والتطبيع السياسي والأمني والاقتصادي وربّما الثقافي في أحايين كثيرة. وهذا بدوره يعود إلى فقدان التوازن الإقليمي والدولي لقوى العدوان والاستعمار ولملحقاتها من الكيانات العربية الوظيفية التابعة التي تتشكّل منها دول الخليج والأردن ومعها مصر وبعض من لبنان، لإقامة ولإنضاج ظروف جديدة تخدم استمراريتهم وديمومة بقائهم وتركّزهم في السّلطة بعد أن اهتزّت عروشهم وفقدت مشروعيتها نتيجة متغيّرات عالمية لم تعدْ تنفع معها التغطية لسياساتهم التقويضية للتنمية وللتحرير وللانعتاق من الهيمنة الاستعمارية التي تشكّل «إسرائيل» وأدواتها رأس حربة مشروعاتهم المستقبلية اليوم…

أرادوا للرأي العام العربي والإسلامي يتعوّد شيئاً فشيئاً على زيارات الصهاينة العلنية لدول عربية ولمدن ومقدّسات إسلامية لتسهيل تدنيسها وتطويع الإنسان العربي من جديد لقبول هذه المعطيات، حيث كانت ردّات الفعل باستثناءات البعض خجولة جراء هذه الزيارات وعمليات التدنيس التي قام بها الصهاينة للمقدّسات الإسلامية. وهو ما يشي بالمزيد منها، وحيث إنّ ردّات الفعل الخجولة ظهرت جراء ما اقترفته يدا إبن سلمان والوحشية التي وصف بها نتيجة جرائمه التصفوية وحربه القذرة على الشعب اليمني، وهو محاصر اليوم أينما اتّجه في كلّ أصقاع العالم، وليس هذا فحسب بل هو المسؤول والمبادر والممسك بمشاريع التّطبيع وتصفية القضية الفلسطينية ومقدّساتها ويمكن له أن يستمرّ إذا نجح وتثبّت في الحكم أن يبقي حالة النزف العربية والإسلامية والانقسام الدائم في الشارع العربي لخمسين عاما على أقل تقدير، وهو أمر بات قبوله وهضْمه صعبا بأيّ حال من الأحوال…

لقد سهّل ترامب للجميع كشْفه المبْكر عن سرطان المخطّطات وما يرسم للمنطقة من مشاريع عنصرية تدميرية مستندا على مكانة ودور السعودية الاقتصادي والسياسي والأمني، مطمئنا لصدمة العرب وصمّ آذانهم عما يرتكب بحقّهم مستعينا بمحمد بن سلمان قائدا أعلى في احتواء التطبيع ولمّ الجميع تحت عباءته، وليس أدلّ على ذلك من تعثّر مشروع تشكيل الحكومة في لبنان برئاسة الرئيس المكلّف سعد الحريري الذي لا يطْمئنّ إلى أيّ دور داخل الطائفة السنّية غير دوره، ولا يريد أن يسلّم بالتعدّدية السياسية إن مذهبيا أو طائفيا والمستحوذة عليها الحريرية السياسية منذ عام 1992، للقول اليوم إنّ أهل السّنة والجماعة هم تحت العباءة الحريرية، ما يعني أنّهم ومن خلالها تحت العباءة السعودية، ما يعني أيضا أنّ أيّ مشروع تطبيعيّ مع الكيان الصهيوني تقوده مملكة الخير سيعيد الاصطفافات الطائفية والمذهبية من جديد في لبنان بوجه المقاومة ويتمّ رهْن البلد بانقسامات على خيارات إقليمية تصبح اليوم أقوى وأشدّ خطرا على الكيان اللبناني من السابق، لأنّه يتمّ فيها الاستخدام العلني لتشريع التّطبيع مع «إسرائيل» وما يحمل معه من عوامل تأزّم وتوتير على الساحتين السياسية والأمنية، لأنّ العين الأميركية والصهيونية الدائمة قائمة على التطبيع مع الأغلبيات العربية وليس الأقليات بهدف كسب مشروعيتها وقبولها في الجوار….

عقدة متلازمة استوكهولم لا زالت ترافق الرئيس المكلّف في لبنان برغم ما ارتكبه بحقّه محمد بن سلمان من إساءات وبحقّ لبنان ووجوده وسيادته على أرضه، هي ذاتها العقدة متلازمة عكسيا مع سورية وموقفه منها رغم زحف العواصم العربية والغربية الى دمشق. وهي مواقف تسيء للبنان ولشعبه ولاقتصاده المستنزف، وهو لم يتفوّه ولو بكلمة واحدة ولا كتلته النيابية عن الخروق الصهيونية المستمرّة للسيادة اللبنانية، كذلك مواقفهم المخزية من الاعتراف الإسرائيلي بقصف الباخرة اللبنانية في طرابلس عام 1982 والتي ذهب ضحيّتها العديد من اللبنانيين الأبرياء من أبنائه في عاصمة الفيحاء، أقلّه على سبيل التقدّم بشكوى للأمم المتحدة بغية التعويض عن هؤلاء الشهداء. وهذا كلّه يكشف الأقنعة عن مواقف هؤلاء. من هنا وجب التذكير فقط، ومن دون أن ننسى الاعتداءات الصهيونية التي جرت مؤخرا على سورية لتقويض سيادتها حيث هلّل إعلام المستقبل لهذه الضربات واعتبرها عملا أمنيا ضدّ القوات الإيرانية وحزب الله.

هذا جزء من بعض من كلّ المواقف التي اتّخذتها بعض من هذه الطبقة السياسية التي تمهّد للسّير مع المشروع الأميركي السّعودي الذي يصبّ في الصّحن الإسرائيلي في نهاية المطاف، في الوقت الذي تتكاثر فيه الاحتجاجات والاستنكارات لما ترتكبه «إسرائيل» بحقّ الشعب الفلسطيني وأبناء غزة، لكن من دون أن يشيروا بأصابعهم الى من يدعم ويغطّي ويوسّع من شرعية الاحتلال عربيا وإسلاميا، فهذه كلّها إجراءات ناقصة لا تخدم أهل فلسطين والقضية بشيء، فلا بدّ من الذهاب الى العقل المدبّر والذي يشكّل رأس الحربة في مشاريع التدمير للمنطقة العربية والذي صار مكشوفا الى العلن وسقطت عنه كلّ الأقنعة التي لازمته منذ عام 1948 الى يومنا هذا…

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى