المقاومة بين مناورة نتنياهو المأزوم ومناورات الداخل: التحكيم وخطيئة التخلي عن صيغة الثامن من آذار

ناصر قنديل

– لم تتوقف «إسرائيل» منذ انسحابها من جنوب لبنان عن الإعلان عن اكتشاف ما تسميها اختراقات حزب الله لكيان الاحتلال، والتباهي بتفكيك خلايا استخبارية قام حزب الله بتشكيلها في الداخل الفلسطيني أو في قلب مؤسسات الكيان العسكرية والأمنية، والإعلان عن اكتشاف عمليات تم إعدادها والتباهي بالقضاء عليها استباقياً، وعملية السعي لكشف أي محاولات لبناء أنفاق عابرة للحدود نحو فلسطين المحتلة كانت دائماً ضمن هذا الإطار، وكثيراً ما حفلت وسائل الإعلام الإسرائيلية بنقل أحاديث للمستوطنين عن القلق من أعمال حفر يسمعونها تحت منازلهم في إطار التسويق لهذه العمليات، أما التسويق لمشروع اسمه حملة الكشف عن الأنفاق فهو ابتكار إعلامي استعراضي لا قيمة عسكرية ولا أمنية، له مهما كانت البيانات التي ستلي مليئة بالتحدث عن إنجازات موجّهة لاسترضاء الداخل الإسرائيلي، واللعب بمشاعره أسوة بالاستعراض الفاشل لرئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو من منبر الأمم المتحدة والذي عرض خلاله صوراً قال إنها لمستودعات صواريخ حزب الله قرب مطار بيروت وسرعان ما تحوّل الإعلان إلى فضيحة، يريد نتنياهو تجنب مثلها في احتفال اليوم.

– المقاومة التي أظهرت قدرة عالية ومهنية احترافية في التعامل مع الاحتلال ومخابراته وجيشه تدرك الموازين الاستراتيجية التي صنعتها، وتعرف حجم تأثير الحروب التي خاضتها، والتحالفات التي صنعتها، وتعرف أن «إسرائيل» فاقدة للقدرة على اتخاذ قرارات كبرى بحجم عمليات عسكرية نوعية أو عمليات سياسية جدية، وتعرف أن حكومة كيان الاحتلال بعد معادلة الردع الصاروخي في سورية التي تنتظر سلاحها الجوي، تبحث عن بدائل تكتيكية لإثبات الحضور، خصوصاً بعد الفشل في تحويل غزة ساحة فعل عسكري لجيش الاحتلال، ولم يتبقّ إلا الاستعراضات طريقاً للحضور الذي تراقبه المقاومة وتعرف متى يتخطى حدوده ويصير واجباً التعامل معه بجدية ليحصد نتائج مأساوية للعبث والحماقة، ومتى يجري تحويله مسرحية هزلية.

– الوظيفة الفعلية لحركة جيش الاحتلال وإعلامه ليس جنوب الحدود اللبنانية، بل بإطلاق مواقف وأحداث يمكن أن يتمّ توظيفها في سياق يقوده فريق لبناني تحت عنوان «حزب الله يجلب المخاطر على لبنان»، وهو السياق نفسه الذي يجري خلاله طرح التعقيد الحكومي ورمي أثقاله على عاتق حزب الله. وفي قلبه يجري تظهير الأزمة الاقتصادية والمالية والنفخ فيها للقول إنها من نتاج حزب الله. وهو السياق الذي تتمّ ضمنه عملية التلويح بخطر على الوضع الأمني تُنسَب لحزب الله، ويعرف الاحتلال كما يعرف حزب الله أن لا خلل في الموازين عبر الحدود يتيح للاحتلال تغيير المعادلات، بينما الرهان هو على إحداث خلل في الداخل يتيح الرهان على تحجيم المعادلات لأن تغييرها فوق طاقة الجميع من الداخل والخارج.

– تكتشف المقاومة اليوم خطيئة التخلي عن صيغة الثامن من آذار، سواء لمراعاة بعض أوضاع حلفائها في الفترة الأولى للحرب على سورية، والرغبة بتخفيف التشنجات التي رافقتها، وعنوان الثامن من آذار «شكراً سورية»، أو مراعاة لتظهير التحالف الناشئ مع التيار الوطني الحر، أو لوهم زرعته قوى الرابع عشر من آذار مع تفكك حلفها بسبب تباين مواقف أطرافه، سواء في مرحلة زيارة الرئيس سعد الحريري لسورية، أو في مرحلة التفاوض على الاستحقاق الرئاسي بين الحريري والتيار الوطني المستقبل، بالإضافة للخصوصية التي احتفظ بها لنفسه النائب السابق وليد جنبلاط منذ اتفاق الدوحة، إلا أن الحقيقة السياسية التي لم تغب يوماً هي أن لا وجود لانقسام سياسي لبناني ثابت إلا حول الخيارات الكبرى التي يمثلها عنوان سلاح المقاومة وعنوان العلاقة مع سورية، وهما محور الانقسام بين معسكري الثامن والرابع عشر من آذار، وما عدا ذلك من مواقف فهي تكتيكات عابرة مهما بدت جوهرية في حينها كحال الاستحقاق الرئاسي، أو التفاهمات داخل الحكومة والمجلس النيابي، حيث التفاهمات التكتيكية متنقلة وغير ثابتة وتتم بالمفرق وعلى القطعة، بينما يبقى الانقسام على عناوين الثامن والرابع عشر من آذار غير قابل للتزحزح.

– القدرة على اللعب بالوضع الداخلي من قبل الحلف المناوئ للمقاومة مستمدّة من غياب صيغة الثامن من آذار، فلو كانت هذه الصيغة قائمة، لكان التفاوض على الوضع الحكومي سهلاً وبسيطاً وقوياً، تكتل نيابي ضخم يملك تمثيلاً بـ45 نائباً في كل الطوائف مقابل تكتل موازٍ للرابع عشر من آذار يملك تمثيلاً بـ44 نائباً، وعنوان التفاوض أعطونا بمثل ما تنالون ونحن نتدبّر أمرنا. ولو كانت صيغة الثامن من آذار قائمة وحية وفعلية لكان الاستعداد للانتخابات تمّ بطريقة مغايرة، تتوحّد فيها الجهود لدعم مرشحين متفق عليهم في كل الطوائف، ويجري حشد التحالفات لصالحهم، فكان التمثيل الدرزي مختلفاً والتمثيل السني مختلفاً والتمثيل المسيحي مختلفاً، ولم يكن بلوغ ثلثي المجلس النيابي لتحالف الثامن من آذار مع التيار الوطني الحرّ بالمستحيل، ولكانت تسمية أي مرشح لرئاسة الحكومة ستأتي بعد تفاوض على التفاصيل الخاصة بالتمثيل والبيان الوزاري والاستحقاقات التي تنتظر الحكومة من مكتب تنفيذي للتكتل الكبير يترأسه الرئيس نبيه بري ويضم النائب محمد رعد والوزير علي حسن خليل والوزير السابق سليمان فرنجية والوزير طلال إرسلان والنائب أسعد حردان والوزير السابق عبد الرحيم مراد والوزير السابق فيصل كرامي.

– أن تأتي متأخراً خير من ألا تأتي أبداً، فالعودة الآن خير من البقاء في ملعب تحكمه قواعد اللعبة الطائفية والمذهبية، وفضيلة الانقسام بين قوى الثامن والرابع عشر من آذار أنها عابرة للطوائف وتتم على أساس السياسة، ولأن التخلي عن صيغة الثامن من آذار كان أشبه بتفاهم داخلي عنوانه تعالوا نخرج من اصطفاف الثامن والرابع عشر من آذار، فخرجت قوى الثامن من آذار من إطارها وبدلاً من أن تخرج قوى الرابع عشر من آذار من صيغتها تشبثت بها، لكنها أعادت الانتشار، على طريقة ما فعل عمرو بن العاص بأبي موسى الشعري في لعبة التحكيم بعد معركة صفين بين أنصار الإمام علي ومعاوية، وما تضمنه التفاهم بينهما من إعلان كل منهما أمام الملأ لخلع موكله من الحكم كما يخلع خاتمه من إصبعه، ففعل الأشعري، ولما جاء دور إبن العاص وكيلاً لمعاوية، أمسك الخاتم ووضعه في إصبعه وقال أثبّت موكلي في الحكم كما أثبّت هذا الخاتم في إصبعي.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى