بيروت متمسّكة بعروبتها الحقيقيّة…

ريمون ميشال هنود

منذ ما يقارب السنة، يستمرّ قادة ومسؤولو تيار المستقبل بنطق مقولة بيروت متمسّكة بعروبتها، وآخر من صرّح بذلك، كان الرئيس فؤاد السنيورة، خلال افتتاح معرض الكتاب العربي في 6 كانون الأول الحالي. من حق دولة الرئيس أن يعشق تلك المقولة لكنه في المقابل مدعوّ الى التمييز بين العروبة التي ي بالتمسّك بها، وبين عروبة بيروت الحقيقية التي سطّرت بمقاومتها بين العام 1958 و1990، أروع الملاحم البطولية ضدّ المشروع الأميركي الصهيوني. فعروبة بيروت التي يدعو دولته الى التمسّك بها، هي عروبة عام 1992، التي ولجت البوابة السياسية اللبنانية، آتيةً بدعمٍ كبيرٍ من ممالك النفط العربي وجالبةً معها انتفاضة الدواليب ضد ّحكومة العروبي الشريف ابن الشعب دولة الرئيس عمر عبد الحميد كرامي، وقد بدأ قطارها السريع بالعمل بقوةٍ عقب اتفاقية أوسلو في العام 1993.

انّ عروبة بيروت الحقيقية لا يمكن أن ترفض أبداً العلاقات الاقتصادية والتجارية بين المملكة العربية السعودية ووطن الأرز العربيّ، وما بإمكان أحد أن ينكر أنّ لبنانيين كثراً مقيمين في المملكة يعتاشون من أموالها. لكن ورغم ذلك فإنّ تاريخ بيروت المقاوم يأبى أن يكون معنياً بالسياسات السعوديّة الرافضة لكلّ أشكال مقاومة المشروع الأميركي الصهيوني في المنطقة العربية، ولا يمكن أن يكون معنياً بالدعوات السعوديّة والخليجية إلى تطبيع مع العدو تكون نقطة الانطلاق لبلوغه، البدء ببناء ورشته على أنقاض المعادلة الذهبيّة، قوة لبنان بجيشه وشعبه ومقاومته، التي أثبتت أنّ قوّة لبنان لا يمكن أبداً أن تكون بضعفه، لأنّها حوّلت التكنولوجيا العسكرية الصهيونية وقوات النخبة الصهيونية إلى عينٍ، عجزت عن هزيمتها بعد أن أمست مخرزاً غدا بدوره شوكةً في عين العواصم التوّاقة مجدّداً الى استعمارنا، وخنجراً في خاصرتها. كما أنّ عروبة بيروت الحقيقية، ستبقى مؤمنة بأنّ تاريخ بيروت المرصَّع بالانتصارات المظفّرة المبينة على مشاريع التوسّع والنهب تواقٌ الى تحصين انتصاراته السابقة باستكمال الانتصارات على حروب المخطط الأميركي الصهيوني المقبلة، والانتصار في لعبة عضّ الأصابع، والمقاومة هي خير من يتقن فنون تلك اللعبة.

ولأنّ طهران تقاوم المشروع الأميركي الصهيوني بشراسة قلّ نظيرها، عمدت المملكة الى اتهام إيران زوراً بأنّها تتخذ من المقاومة للمشروع الأميركي الصهيوني مطيَّةً وغطاءً لتحقيق مرادها الحقيقي، وهو بناء «هلال شيعي»، على امتداد رقعة العالم العربي، لاستبدال الثقافة العربيّة بالثقافة الفارسيّة وطمس المعالم التاريخيّة والثقافيّة للحضارة العربيّة، وقد عمدت من خلال هذا الاتهام إلى بث الرعب في قلوب ونفوس مكوّن أساسي حبيب من مكوّنات النسيج الاجتماعي للأقطار العربية، وشرعت بعد ذلك الى اتهام النظام السوري بأنّه نظام قمعيّ، وهو اتهام باطلٌ هدف الى تحريض فئة من الشعب السوري على نظامه، نتيجة حلفه القوي مع طهران منذ العام 1980، وقد لقي هذا التحريض حتفه في مدن دمشق، وحمص وحماة وحلب نتيجة تمرّد الشعب السوري عليه، والتفاف الجيش السوري، حول قيادته الحكيمة.

ولأنّ دمشق عاصمة المقاومة القومية والعربيّة عمد تيّار المستقبل حليف المملكة في لبنان الى بث الرعب أيضاً في نفوس الأهالي في بيروت وطرابلس والمنيه والضنيّة وعكار وصيدا وإقليم الخروب وعرسال، بحجّة انّ سلاح حزب الله «الشيعي» المدعوم من إيران وسورية سيمتدّ الى الداخل اللبناني، وسيسيطر على مقاليد الحكم لبناء ولاية الفقيه في وطن جبران، رغم انّ المملكة وحلفاءها في لبنان يعلمون كلّ العلم بأنّ ابتكارهم لبدعة الخطر الفارسيّ والترويج لحقيقة احتياجه للعالم العربي، ما هو إلاّ من قبيل إسكات صوت السلاح المقاوم، ونزعه لعزل طهران وجعل بيروت ودمشق تتخليان عن المقاومة، والرضوخ والإذعان للتوقيع مع كيان العدو وفق شروط صفقة القرن القاضية بتصفية القضية الفلسطينية تصفية نهائية وتوطين الشعب الفلسطيني المتواجد في دول الشتات، وخير دليل على ذلك أنّ زيارات المسؤولين والقادة الصهاينة الى كافة دول مجلس التعاون الخليجي، خرجت الى العلن في السنوات الأخيرة، ولم تعد سريّة كما كانت عليه قبلاً، والدعوات الى التطبيع مع كيان العدو، خدشت الحياء وأبكت البكاء وطعنت نضالات وبطولات المقاومين الفلسطينيين ضدّ الإرهاب الصهيوني في الصميم.

لكن نتائج الانتخابات البرلمانية اللبنانية الأخيرة في بيروت وصيدا والبقاع وطرابلس والضنية، شكّلت صدمةً للغيارى على عروبة بيروت، وأثبتت صناديق الاقتراع أنّ لسلاح المقاومة في تلك المناطق والمدن شعبيةً ليس بالإمكان الاستهانة بحجمها وتجاهلها، وقد أثبت المزاج الوطني في تلك المناطق والمدن القناعة الراسخة بأنّ سياسة التخويف من سلاح حزب الله أتت تنفيذاً لأجندات عربيّة ودولية، هدفت الى وضع انتصارات طرابلس وبيروت وصيدا التاريخية على المخطّطات الأميركية الصهيونية في متاحف الهزيمة والمجد المفقود إكراماً لمشروع الشرق الأوسط الجديد. والمعضلة أنّ الغيارى على عروبة بيروت، والخائفين على تجريدها من هويتها العربية من قبل مقاومين عرب يتلقّون الدعم من طهران، تناسوا أنّ الاتحاد السوفياتي دعم كلّ حركات المقاومة العربية التحرّرية المسلّحة منذ العام 1958 حتى العام 1982، وكأنّ ما كان يحق للاتحاد السوفياتي سابقاً، لا يحق لطهران حالياً، رغم أنّ إيران هي عضو في محورٍ عالمي مقاوم يضمّ روسيا والصين وكوريا الشمالية والهند وجنوب أفريقيا وفنزويلا وكوبا والعراق وسورية ولبنان والمقاومة الفلسطينية… وكلّ تلك الدول ترفض أيضاً تجريد المقاومة في لبنان من سلاحها لأنّ الصراع مع العدو ما زال طويلاً.

هنا من حق الأسئلة الموجّهة الى هؤلاء الغيارى، أن تعبّر عن نفسها قائلةً، لماذا شنّ النظام الملكي السعودي حرباً شعواءً على الرئيس جمال عبد الناصر الذي كان المثال والقدوة بالنسبة لأبناء بيروت وطرابلس وصيدا، معتبراً إياه حينها خطراً على غرار الخطر الفارسي اليوم، وهو قائدٌ عربيٌ، مصريٌ ينتمي الى الطائفة السنية؟ الجواب، لأنّه كان يقاوم، ولا مكان بتاتاً للمقاومة في القاموس السعودي إكراماً لقصة الحب الحميمة بين النفط والدولار الأميركي!

ولماذا لم يكن الخطر الفارسي على أقطار الوطن العربي جاثماً، ابان حكم الشاه المخلوع محمد رضا بهلوي لإيران؟ أوَليس لأنّ الشاه كان حليفاً قوياً للمشروع الأميركي الصهيوني في المنطقة العربيّة، وكان يجزل بركاته على المصالح الأميركية السعودية؟ ولإثبات صحّة هذا التحليل، أحيلُ مناصري تيار المستقبل، الذين قاوم آباءهم وأجدادهم المخطّط الأميركي الصهيوني المعدّ ضدّ لبنان في العام 1958 وفي العام 1982 ضمن صفوف أحزاب جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، الى نصّ رسالة كان قد بعث بها الملك فيصل الى الرئيس الأميركي ليندون جونسون بتاريخ 27 كانون الأول عام 1966، وهذا النص واردٌ في كتاب عقودٍ من الخيبات لمؤلفه حمدان حمدان في الصفحات 489، 490، و491 أكتفي بكتابة مطلعها الذي يقول، إنّ كلّ ما تقدم يا فخامة الرئيس جونسون وبما عرضناه بإيجاز، يتبيّن لكم أنّ مصر هي العدوّ الأكبر لنا جميعاً، وأنّ هذا العدوّ ان ترك يحرّض ويدعم الأعداء عسكرياً وإعلامياً، لن يأتي عام 1970، كما قال الخبير في إدارتكم السيد كيرميت روزفلت، إلا وتكون مصالحنا مهدّدة في وجودها، لذلك فإنّي أبارك ما سبق للخبراء الأميركيين في مملكتنا أن اقترحوه من اقتراحات تلتقي مع وجهة نظري وهي التالية، أن تدعم أميركا «إسرائيل» للقيام بهجومٍ خاطفٍ على مصر، تستولي به على أحد أهمّ الأماكن الحيويّة فيها لتضطرها بذلك الى سحب جيشها صاغرةً من اليمن فقط، والهدف إشغال مصر بـ «إسرائيل» عنّا مدّة طويلة لن يرفع بعدها أيّ مصريّ رأسه خلف القناة، ليحاول إعادة مطامع محمّد عليّ وعبد الناصر في وحدةٍ عربيّة، وبذلك نعطي لأنفسنا مهلةً لتصفية الأفكار الهدّامة لمصر. أما سورية فهي الدولة الثانية التي يجب ألاّ تسلم من هذا الهجوم، مع اقتطاع جزءٍ من أراضيها كي لا تتفرّغ هي الأخرى، فتندفع لسدّ الفراغ بعد سقوط مصر.

إنّ المعضلة الأساسيّة تكمن بوجود حالة التفاف شعبي مصري حول جمال عبد الناصر، تجعل السلام بالشروط الأميركية مستحيلا، وانّ مصر التي كان من المفترض أن تبدو منتصرة، تبدو مهزومة جرّاء حرب الاستنزاف، وإنّ قادة الكيان الصهيوني غولدا مائير وموشي دايان وهارون ياريف، قد أجمعوا على أنّ بقاء الكيان الصهيوني، ونجاح المشروع الأميركي في المنطقة مرهونٌ باختفاء جمال عبد الناصر من الحياة، وانهم قرّروا اغتياله بالسمّ أو بالمرض، وأنّ غولدا مائير رئيسة وزراء «إسرائيل» قالت بالحرف الواحد سوف نتخلّص منه we will get him، وإلاّ فإنّ العالم العربي سيبقى ضائعاً وسيخرج عن نطاق السيطرة الأميركيّة.

وبعد 50 عاماً من رسالة الملك فيصل الى الرئيس الأميركي ليندون جونسون، قال وزير خارجية السعودية، عادل الجبير في ندوة له في مركز ايغموند في العاصمة البلجيكية بروكسل بتاريخ 20 تموز 2016 انّ على الرئيس بشار الأسد أن يرحل، فلا مكان له في مستقبل سورية، وسننجح في إسقاطه كما أسقطنا الرئيس جمال عبد الناصر والقومية العربية والاتحاد السوفياتي، ما يعني أنّ السياسة السعودية ما زالت هي هي سواء أكانت هوية المقاوم فارسية أو روسية أو سورية أو عراقية أو فلسطينية.

إنّ عروبة بيروت الحقيقية ستبقى تقاوم كلّ مشاريع الاستعمار التوسيعية الهادفة الى نهب ثروات أمّتنا الحبيبة، لأنّها لن تنسى جورج بوش الإبن عندما قرّر غزو العراق قائلاً لأحد ضباطّه، نحن ذاهبون الى العراق من أجل جلب النفط العربي الى شيوخ الكونغرس، وإجابته هذه أتت عقب سؤال ذلك الضابط له، سيدي لمَ نذهب الى العراق، ويُقتل جنودنا فداءً لشيوخ النفط العرب؟ وطالما انّ الرئيس الأميركي الأسبق جيمي كارتر قال ذات يوم، لو أنّ الله أزاح النفط العربي قليلاً نحو الغرب لكانت مشكلتنا أسهل، ستبقى بيروت مقاوِمة لا مساوِمة، وسيبقى سلاح المقاومة في لبنان بدعم في جيشه الوطني وشعبه الأبيّ، يزيّن صدور الساحات والشوارع في أجمل المدن وأروع الدساكر اللبنانيّة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى