الهجرة العميقة إلى بلاد الشام سليم يوسف في أثر برهان الدين البقاعي

د. قصي الحسين

اقترب سليم يوسف أكثر فأكثر من حلمه، حين انصرف بالكلية، لتحقيق وطباعة كتابه الأثير: «الإعلام بسن الهجرة إلى بلاد الشام». وهو من تأليف برهان الدين أبي الحسن إبراهيم بن عمر البقاعي، والذي عاش بين عامي 809 ـ 885 هجرية، لأسباب عديدة، أبرم بعضها، وإن كنت أكتم الكثير من بعضها الآخر:

1 ـ فهو أولاً مواطنه البقاعي. صرّح عنه فقال بعد تحقيق وتدقيق إنه من «خربة روحا» البقاعية. فهو إبراهيم بن عمر بن حسن الرباط بن علي بن أبي بك البقاعي الشافعي، أبو الحسن الوقاصي الزهري الخرباوي. نسبة إلى خربة روحا في البقاع الغربي، التي أورد ترجمة لها، كلّ من حسن نعمة: موسوعة المدن والقرى اللبنانية: ص235 ، ود. أنيس فريحة: معجم أسماء المدن والقرى اللبنانية: ص63 .

2 ـ وجد فيه المحقق الشيخ سليم يوسف، خدنه في الأجواء القلقة التي عاشها، بقتل أبيه وعمّيه وبعض أقاربه. وإصابته وهو في سنّ الإثنتي عشرة، في رأسه، مما ترك آثاراً نفسية عليه. وهو الذي عانى مع أهله من قسوة الحكام عليه أيضاً، فاضطر لترك بلدته خربة روحا والهجرة إلى دمشق مع أهله، سكناً ودراسة وتدريساً.

3 ـ انكبابه على طلب العلم بدمشق والسماع من شيوخها سنة 823 للهجرة. فجوّد القرآن الكريم، وجدّد حفظه، واتبع أصول القراءات السبع، وقرأ على علامة القراء بالشام، الشيخ شرف الدين صدقة المسحراتي الضرير.

4 ـ إعجابه بشخصه، جعله يعدد له معظم من أثنى عليه، وترجم له أمثال: إبن العماد الحنبلي في شذرات الذهب، والشوكاني في البدر الطالع والسيوطي في نظم العقيان، والأنصاري في حوادث الزمان، وإبن إياس في بدائع الزهور، وكرد علي في خطط الشام والصواف في الأسر الدمشقية والسخاوي في الضوء اللامع، وكذلك الحصني، وأبن تغرى بردى في النجوم الزاهرة، والغزي في الكواكب السائرة. ناهيك عن المحدثين، مثل: رضا كحالة وخير الدين الزركلي وجرجي زيدان.

5 ـ مشاركته الحب والغرام، لفضائل بيت المقدس وبلاد الشام. فبيت المقدس، هي أفضل بقاع الأرض وأطهرها ص229 ، ولذلك تحدث الشيخ سليم عنها فقال: بيت المقدس بالنسبة لجماهير المسلمين في شتى بقاع الأرض، أكثر من أرض، وأعظم من مدينة. إنها جزء من عقيدة المسلم، ورسالة النصراني ص232 . ويستشهد بقتادة: قال قتادة: «بيت المقدس هي الشام كلها». بل هي مهجر سيدنا إبراهيم من العراق إلى الشام، فتكون الشام هي الأرض المقدسة والمباركة. وبيت المقدس، أولى القبلتين وثالث الحرمين. ويستشهد أيضاً بقول عبد الله بن عمر رض . قال: أربعة أجبال مقدسة بين يدي الله تعالى: طور تينا دمشق ، وطور زيتا بيت المقدس ، وطور سينا، الجبل الذي نادى عليه موسى ربه ، وتيمانا مكة .

6 ـ يشارك سليم يوسف مواطنه الخرباوي البقاعي، وحدة الرؤية لبلاد الشام. فهي بشكل عام، أي بلاد الشام، موطن الأنبياء وبلاد الأولياء. وأن سرتها دمشق، التي نزلت فيها الآيات الكريمة، فقال تعالى «وجعلنا أبن مريم وأمه آية. وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين». وينقل عن أبن الجزي قوله: الربوة الموضع المرتفع من الأرض.. واختلف في موضع الربوة، فقيل بيت المقدس. وقيل: بغوطة دمشق، وقيل بفلسطين. وفي حديث أبي أمامة عن النبي: «هي بالشام، بأرض يُقال لها الغوطة، مدينة يُقال لها دمشق، هي خير مدائن الشام» ص235 .

7 ـ وكما الأمام البقاعي، يرى الشيخ سليم يوسف، أن الفضائل التي نسبت لبلاد الشام لم تنطلق من فراغ. فقد أيّد ما ساقه الإمام البقاعي من أحاديث شريفة، تصف دمشق وغوطتها، بأنها موئل المؤمنين آخر الزمان، وأرض الملحمة التي ستشهد انتصارهم على أعدائهم. وعدّ دمشق، رابعة المدن المقدسة في العالم الإسلامي: مكة، والمدينة، والقدس، ودمشق.

8 ـ يؤيد ما نقله عن القزويني في صفة دمشق، وفي أن قصبة بلاد الشام «جنة الأرض»، لما فيها من النضارة وحسن العمارة ونزاهة الرقعة، وسعة البقعة. آثار البلاد ص189 . وحين فطن إلى غوطتها، قال: «جنان الدنيا أربع: غوطة دمشق، وصغد، وسمرقند، وشعب بوان، وجزيرة الأبلة» ص535 .

9 ـ ويضيف الشيخ سليم إلى ما رآه في كتاب البقاعي، عن محاسن الشام. وأنّ تاريخها مرتبط بالأنبياء والرسل: عيسى وموسى والخليل ومحمد. وأنها كانت أرض الأبدال والزهاد ومساكنهم في جبل اللكام بالشام، وجبل لبنان. ويذكر الكتب المطبوعة في فضائل بلاد الشام، التي تذكر ما فيها من الآثار والعلماء الصالحين مثل: تاريخ مدينة دمشق لإبن عساكر وهو في ثمانين مجلدا. وذيل تاريخ دمشق لإبن الحاجب. وذيل تاريخ دمشق لإبن القلانسي. ومختصر تاريخ دمشق لأبي شامة. ومختصر تاريخ دمشق لإبن منظور المصري، صاحب لسان العرب. وإتحاف الأخصا بفضائل المسجد الأقصا، للمنهاجي السيوطي.

10 ـ عدد من الكتب المطبوعة في ذكر فضائل الشام، زهاء 52 مؤلفاً، وجعل كتاب البقاعي: «الأعلام بسن الهجرة إلى بلاد الشام» الرقم 17 . كما عدّد من الكتب المخطوطة زهاء ال30 مخطوطا. أولها، مخطوط «استنشاق نسيم الأنس من نفحات رياض القدس» لإبن رجب الحنبلي. وآخرها «منتهى المرام في تحصيل مثير الغرام» لشمس الدين أبن عمار ت: 844/ 1440 . انصرف الشيخ سليم يوسف، إلى تحقيق وتدقيق كتاب: «الإعلام بسن الهجرة إلى بلاد الشام»، لمواطنه الخرباوي نسبة إلى خربة روحا والبقاعي، نسبة إلى بلده البقاع ، وكأنه واجد نفسه. حدب على الكتاب كلقية، من بين كلّ اللقى، وقد حفر عليها في المكتبة التراثية الإسلامية، فعثر عليها. ولاقى فيها، ما يلاقي في نفسه. وبادر إلى التقديم له، بمقدّمتين. واحدة صنعها له سماحة العلامة الفهامة الإمام، مفتي البقاع، الشيخ الدكتور أحمد اللدن. ومقدمة أخرى هي من صنع نفسه، كأنه صنعها لنفسه. ولا أضيف على ما وجد سماحته في الكتاب من شيء، لأنه تجاوز نفسه وعلمه في ذلك، فقال: «… رأى كما من الضوء على موقع بلاد الشام الثقافي.. ومكانتها في الذهن الديني والعلمي. دون أن ينسى دور الشيخ سليم في الترجمة للأعلام والإضاءة على حياة وشمائل البقاعي ومواهبه المتعددة. ولا غرو، فالشيخ سليم « إبن بجدتها»، كما يقول سماحته. وتحقيقاته منيفة في هذا الشأن.

لا أستطيع أن أزيد على ما وجده سماحة الدكتور الشيخ أحمد اللدن في عمل الشيخ الأستاذ سليم عبد اللطيف يوسف، دراسة وتحقيقاً لكتاب الإمام برهان الدين البقاعي: «الإعلام بسن الهجرة إلى بلاد الشام». وإنما أنوّه بجهده الدؤوب للكشف عن أسباب هذة الرسالة من جهة، وعلى أهميتها من جهة أخرى، خالصة من العيوب. وإلى التنويه أيضاً بالفصول التي تحرّى فيها عمل البقاعي. كما في الفصل الأول ص 35 ـ 98 : مثل الوقوف على نشأته وألقابه وعلى كناه، وعلى ذكر من أثنى عليه، أو سخر منه وهاجمه. وعلى وفائه لقريته «خربة روحا»، وعلى نشأته العلمية وميزاته الشخصية والمناقبية. والوظائف التي تولاها، وعلى الأسباب في هجرته في طلب العلم، إن في دمشق أو في القاهرة. وهو الذي ذكر لنا في الفصل الثاني ص 99 ـ 170 : شيوخ الإمام البقاعي وتلاميذه وطلابه. كما ذكر لنا في الفصل الثالث ص 175 ـ 265 : مصنفات البقاعي ونماذج من شعره وأدبه، وقطوفا من فضائل بلاد الشام، من الكتب المطبوعة أو المخطوطة.

وجعل المحقق الرائد، حلية عمله في الفصل الرابع ص 267 ـ 314 : حيث كان كثير الدقة في تحقيق نص الرسالة أولاً، وفي شرح المصطلحات والألفاظ، والوقوف على الأمكنة، والأزمنة، وترجمة الإعلام، وسرد التواريخ وإثبات الأسانيد والأحاديث، بلا كلال أو ملال. ناهيك عن الفهارس المصنوعة بكلّ عناية ودقة، وعن الخواتيم والنتائج التي توصل إليها، وعن ثبت المصادر والمراجع، التي اعتمدها، وثبت ما صدر للمؤلفين: سليم والقضاعي، من تآليف وكتب مطبوعة ومخطوطة. وكلاهما كان مجداً ومكثراً. تماماً كما كان معانداً للخطل والخطأ، وموافقاً وموفقاً، في الرأي السديد والموقف الثابت والعنيد، والمنهج العلمي الملتزم الشديد.

أختم بالقول، فيما نقله الإمام برهان الدين البقاعي، ودققه له الشيخ سليم يوسف. والذي يستوقفنا اليوم، بعد أكثر من خمسماية عام، قال: «وروى ابن عساكر عن عوف بن مالك رض عنهما، قال: «تخرب الأرض قبل الشام بأربعين سنة». وأسند الربعي عن عوف بن مالك الأشجعي رض ، أن النبي صلعم قال له: «أعدد ستا بين يدي الساعة: أولهن موتي، قل إحدى. والثانية: فتح بيت المقدس، قل إثنتان. والثالثة: فتنة تكون في أمتي وعظمها -. والرابعة: موتان يقع في أمتي، يأخذهم كعقاص الغنم. والخامسة: يفيض المال فيكم حتى إنّ الرجل ليعطى المئة دينار، فيظلّ يسخطها، قل خمس. والسادسة: تكون بينكم وبين بني الأصفر الروم . يسيرون إليكم على ثمانين راية. تحت كلّ راية إثنا عشر ألفا. فسطاط المسلمين يومئذ أرض، يُقال لها الغوطة، في مدينة يقال لها: دمشق». رواه البخاري وأبو داود وابن ماجة والطبراني. ص 275 . والحديث الشريف ماثل أمامنا اليوم، نصاً وناصية، كخارطة الطريق.

أستاذ في الجامعة اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى