مُعضلة التجديد

أمين الذيب

الصراع بين التّقدم والرجعة يتصفُ بأنهُ من أقدم الصراعات في التاريخ البشري المُستمرة باستمرار الوجود الإنساني على هذا الكوكب الذي كان جميلاً قبل أن تشوّهه اليقينيات والمقدسات والأفكار ذات البُعد الواحد في فهم الحياة والتي تصل الى حد العدائية بطبيعتها لكل ما يخالف سكونها العديم الحيوية الذي يشكلُ منهجاً لاستقرارها في المألوف والسائد كنمط حياة ثابت تمارس فيه اكتفاءها الذي يحميها من مشقّة الحركة والتفكير والإبداع فابتعدت عن الاختيار في تقرير مستوى حياتها واكتفت بنظرية أن الإنسان مُسيّر في خياراته بإرادة علوية تفوق قدراته وإمكانياته وهكذا تشكّلت هذه الشخصية على أفكار ميتافيزيكية وإيديولوجيا يقينية تامّة صرفتها عن مشقة الحركة والاستدراك والاستنتاج والتمييز فعطّلت بذلك دور الفكر والمخيلة واعتبرتها إنكاراً لقدرة الخالق الذي أوجدها وتدخلاً في إدارته لمفاهيم الحياة المُقررة سلفاً والمُقدّرة على كل فرد بمشيئة عليا.

كثيرة هي الدوافع التي أنتجت تفاهماً وقبولاً مُجتمعياً شبه عام يُنظّر للرجعة وكأنها وسيلة الحياة الإيمانية الوحيدة وما سواها خروج الحق المُبرم عن مساره أرسى هذا المفهوم بالسياق التاريخي حالة متكاملة لها مدارسها واصطفافاتها ومنظّريها وسياسييها ومؤسساتها التي سهّلت إبقاء المجتمع في ركود ذهني وفكري بإحلال قيم ومُثل عليا يقينية محكومة بسقوف ثابتة لا يمكن تجاوزها أو الإخلال بقوانينها ومسلماتها سأُورِدُ هنا مثالاً واحداً من بين مئات الأمثلة التي شهدها تاريخنا تؤكد ما نحاول أن نطرحه في هذا المقال وهو روزبه بن داذويه – فارسي مانوي غيّر اسمه بعد دخوله الإسلام الى عبدالله بن المُقفَّع صاحب كتاب كليلة ودمنة والأدب الصغير والأدب الكبير كما له العديد من المؤلفات والترجمات من الفارسية والهندية والبنغالية واليونانية.

قتل إبن المقفع بتهمة الزندقة على يد سُفيان بن معاوية بن يزيد حيث رُبط وقُطعت أعضاؤه وشُويت وأُجبر على أكلها حتى مات من التعذيب عن عمر لا يتجاوز الـ 36 سنة كان التكفير والاتهام بالزندقة كافيين للتخلص من العلماء والمفكّرين والشعراء مثل إبن سينا وإبن رشد والفارابي والرازي وإبن عربي، كما الحلّاج قُتل وجُلد وصُلب وقُطعت أطرافه أيضاً وبقي مصلوباً الى اليوم الثاني فقُطع رأسُه وأُرسل إلى بغداد الطبري قُتل السهروردي أُعدِم المعرّي حُبِس وهو أعمى الكندي جُرِّد من ملابسه وهو في عمر الستين وجُلِد في ميدان عام وسط تكبير الناس إبن رشد حُرقت كُتبهُ في الساحات تحت صيحات الله أكبر إبن الراوندي حُرقت كل كتبه ولم تصل إلينا هذه الوقائع التاريخية شكّلت مناخاً قمعياً زجرياً إرهابياً تشاركت في تعميمه السلطة السياسية والسلطة الدينية والمفاهيم الشعبية آنذاك المتأثرة بقيم ذاك العصر.

لا يعني الاستدلال أن نتجاهل النتائج التي ترتبت على الأدب والشعر والفكر ومسار التقدّم فالأضرار الروحية الكبيرة انعكست على المناخ الأدبي وحدّت من إنتاجه وجعلته تراكمياً يدور في فضاء السائد بسبب الخوف والرعب الناجمين عن ضراوة الفكر التكفيري المُرتكز الى الدين والذي لا يتوانى إطلاقاً عن إبادة كل ما يتعارض مع مفاهيمه التي أضحت نمط حياة متدنياً بقيَمِه وسلوكه وأولوياته المرتكزة على فهم ضيّق ومتزمّت للدين الذي من المُفترَض أن يكون بطبيعته قائماً على المحبة والتسامح والتراحم لتبعث في المجتمع حيوية حضارية بدل أن تحدّها وتنفيها مما يؤثر على وحدة القيم والمفاهيم في المجتمع الواحد هذه الروح التدميرية لا زالت فاعلة وموجودة بقوة في حاضرنا الراهن مما يضعنا أمام مسؤولية التصدّي لها كي لا تستمر في مستقبلنا.

تدفعنا الحاجة للبحث عن فكر يواجه حالة التخلف والانحطاط المُمسِكة بمعظم شرائح المجتمع وهذه معركة حريّات لهدم الهوّة بين يقين غيبي وفكر دافع الى التقدّم إذ ما قيمة الشعر أو الأدب أو الفنون قاطبة ما لم يتوفر مناخ مجتمعي يواكب حيوية الفكر ومساره التقدمي التجاوزي وهذا يطرح سؤالاً باتَ مُلِحّاً لمَن يُكتبُ الشعر في ظل هذا المدى الشاسع من التخلف والانحطاط أمام انفضاض الشعوب عن مُثُلها العليا وروحيتها وقيمها الحضارية وقوعها في الالتباس الوجودي الناجم عن الإصرار المقصود على البقاء والاستكانة في الماضي هذه الشعوب التي لم تبذل أي جهد لتستفيد من ماضيها ولم تشأ أن تُتعب نفسها بالتطلع الى المستقبل المتغيّر الزاخر بالتطوّر والعلم والإنجازات المبهرة كل ذلك ليقينها بمقدسٍ أضحى عائقاً أساسياً يحجب عنها حتى محاولة الدخول في سياق التطور الإنساني.

المسألة تقع في الوعي الجمعي الرافض بشكل قاطع الاعتراف بالمتغيّرات التي نشأت في العالم فحين ينظر الى التجديد أو الحداثة بمفهومها الرؤيوي المُتجدّد حكماً على أنها نقيض الماضي بقيمه الثابتة هذا اليقين المحسوم معرفياً والواضح البدايات والنهايات والذائقة الأدبية التي تستسيغ بث الصور والمعاني المعروفة والمألوفة لديه من البديهي أن يرفض كل ما يتعارض مع اعتياده النظام واليقين لتشكيلهما نمطه الوجودي وسياق حياته المنتظم بهما وما لم يفهمه الماضويون أن فهم الحياة يتبدّل فكلما تبدل الواقع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي يتبدّل مفهوم الحياة الفكري وتتبدّل النظرة اليها من هنا نفهم ما رمز إليه الناقد القديم باعتباره ان التجديد هو انقطاع عن القديم، فكانت أولى المواجهات مع التجديدي الأول وباني مفهوم التطور بالخروج على السائد أبو تمام الذي أحدث انقلاباً في أنظمة الدلالات والمعاني وأساليب التعبير والفهم حيث اعتبر النُقّاد أن شعره إفساد للشعر كما كان معروفاً حتى أنهم ذهبوا بعيداً حين قالوا اذا كان ما يقوله ابو تمام شعراً فشعر العرب باطل إذن كما اعتبره بعضهم بأنه ضد ما نطقت به العرب لافتقاده الوضوح كما اعتادوا في الشعر العربي قبله.

إن عدم الاعتراف بشعرية أبو تمام لغموضه لا يلغي أنه مؤسس الحداثة العظيم الذي فتح نوافذ العقل والمخيلة على مصراعيهما وأننا بناء عليه وبناء على البعض الغابر السابق له ولقلة سواه بدءاً بالعصر السومري والملاحم والأساطير وما حملته من بذور فائضة بالاستشراف بنينا قاعدة انطلاق فكرية أسست للخروج من المأزق اليقيني والاستتباب الفكري إلى رحاب التفجّر الفكري المُتحرر من السقوف المفروضة على العقل بالمُقدّس المعيارية هنا أن الوضوح في المجتمعات العربية يرقى الى مرتبة الايديولوجيا التي كشفت كل الحقائق الكونية بالمفهوم الديني استتبع ذلك حكماً انسياقاً أدبياً كشف من المنظار ذاته كل الحقائق الكونية فكان من البداهة أن يُحكم على أي نص حداثوي تجديدي مغاير بأنه بدعة وانحراف لكونه خالف المعارف المكتفية بذاتها والمُستقرّة على أنها نهاية المدارك ولا شيء بعدها، لأنها منبثقة من السنن التي لا تتيح لمعرفة لاحقة إلا أن تكون هجينة خارجة عمّا توافق عليه القوم.

مُعضلة التجديد تقع في النظرة إلى الشعر المُقدس ماضوي ثابت والشعر أو الحالة الشعرية تنظر الى المستقبل لتخلق وقائعه وعوالمه المُتخيّلة إذن الصراع بين نظرية الاكتمال المعرفي الثابت وبين القلق الوجودي عند الشاعر الذي يجنح دائماً إلى خلق واقع آخر مُبتكر هو صراع بين مفهوم الحياة كواقع مفروض وجامد وبين مفهوم لحياة كحرية حركية دائمة البحث والتنقيب بقصد بلوغ مدارك جديدة.

ومن عوائق التجديد أيضاً استغلال الإعلام بهدف الإيصال والانقياد الى هذه الآلية المُتاحة حتى ولو كان ذلك على حساب طريقة التعبير مما يفقد الشعر تباعاً فعاليته الجمالية وهذا يعود لتاريخية النمط التصويري لحياة المجتمع الذي يقوم على الربط بين الإنسان والمعوقات التي تعترض مساره فيصوّر له الحرية التي يصفق لها وهو رازخ تحت قيود مجتمع قمعي.

بينما الشاعر بطبيعته رؤيوي، وهذا ما يجعله حكماً خارج المفاهيم السائدة ومناقض لها فكيف للشاعر أن يكون شاعراً إذا لم يكشف المخبوء والمستتر في هذا الفضاء الكوني السحيق فالشاعر هو الخلّاق التوليدي لا السردي الوصفي وهذا ما وصفه الشاعر الفرنسي رينيه شار الكشف عن عالم يظل أبداً في حاجة الى الكشف .

ناقد وشاعر ومؤسس ملتقى الأدب الوجيز

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى