عن سلّ زبالة متبصّر… د. علي العلي والوفرة في المهملات

د. قصي حسين

قبل الحديث عن المسيرة الكتابية الشخصية، لا بدّ للمرء أن يعود إلى البدايات التي قد لا تكون بالاتجاه ذاته الذي وصل إليه الآن الفنان التشكيلي د. علي العلي. فربما كانت تطلعاته الشخصية، تختلف أو تتقاطع مع ما هو عليه آنذاك من واقع، سواء كان هذا الواقع فنياً أو إدارياً أو معمارياً أو هندسياً، أو تزيينياً، أو ما إلى ذلك.

ولا بدّ لشخصية صاحب «سلّ زبالة متبصّر»، وهو في مقتبل العمر، وقد تفتحت أمام أبصاره وعيونه وتطلعاته المتعدّدة صور الواقع الذي يحفر فيه أو يندرج معه ويؤاخيه من العمل في استطلاعه والتبحر في غماره والتخويض فيه، لاستكشاف هذا الواقع وامتحانه، لكي يحدّد المسار الصحيح الذي يضمن له النجاح والوصول إلى ما يصبو إليه، سواء في مجال العمل أو في مجال الرغبة أو الهواية أو الشغف أو التطلع إلى بناء شخصيته داخل المجتمع، إن على صعيد الدراسة أو المهنة أو العمل أو المسؤولية التي يريد.

كانت بدايات العلي في عالم التشكيل والرسم، متدرجاً في معهد الفنون الجميلة والعمارة في الجامعة اللبنانية في طرابلس دارساً ومدرساً، رساماً تشكيلياً في المعارض. بدايات عانت كثيراً، وأجحف فيها النقص الحاد من بؤس المرحلة، فكانت تحولاته لبلوغ غاياته في التعليم والعمل الإداري الجامعي وممارسة مواهبه ونشاطاته هناك.

ورغم كلّ ذلك، انصرف العلي، إلى البحث الأكاديمي، وعلى كتفيه عبء الزمن الفائت والمرحلة القاسية، فحقق تدرجه في أروقة الجامعة، أستاذاً وباحثاً أكاديمياً وفناناً ومعمارياً من خلال إشرافه المتقادم على البناء الجامعي الموحد في طرابلس. وقد جدد له التكليف، لا تشريفاً، وإنما لمخبره وخبراته الطويلة على هذا الصعيد.

بعد صدور بحثه الأكاديمي «الأنثى نواة الفن الأولى»، الذي نال عنه درجة الدكتوراه اللبنانية، صدر له «سل زبالة متبصر»، كعمل فني سردي إبداعي، ذي طابع روائي يرسم بالأبجدية ما كان يرسمه بالانطباع والحروفية، انطلاقاً من إصراره على تجاوز الصعوبات وسط حقول أعماله ونشاطاته المتعدّدة والمختلفة. وقد وجد نفسه فجأة يبحث عن فرص التعبير أينما وجدها، حتى تمكن أن يرصد شاطئ النزهة ورصيف المشاة وحاوية المهملات. وليس كتابه «سل زبالة متبصر» إلا فرصته لالتقاط التمييز والتمايز في العمل الكتابي عن بقية المنشغلين به والذين يدأبون في مجال النقد والرواية والسرد والصورة المكتوبة المتداولة على ممارسة صنعتهم فيه منذ زمن طويل، قدماً على قدم وخطوة خطوة، لا مثله كراصد وصائد الفرص الضائعة.

تقع مدونة «سل زبالة متبصر» في 130 صفحة من القطع الصغير، وقدم لها د. مصطفى الحلوة 7-15 ص، فقال: «إذا كان التميز في أي ميدان من ميادين الفكر يرتكز على الإتيان بجديد والعبور إلى ما وراء المألوف والمنمط، فإن د. علي العلي قد اجتاز امتحان التميز مرتين: الأولى حين وضع أطروحة جامعية والثانية حين يتحفنا اليوم بمؤلف صغير حجماً، ولكنه عظيم أثراً، عبر الرسائل التي يبعث بها» ص1 .

أما صاحب العمل فيقول في مفتتح: «لماذا السل»: «السؤال عن سبب اختيار «سل زبالة» بطلاً لهذة الرواية، فلأن في سلال الزبالة ترمى النفايات المكونة من طبائع مختلفة: بلاستيكية ومعدنية وورقية، كما البقايا العضوية. إضافة إلى كل ما يقرر البشري رميه والتخلص منه، رافعاً عن نفسه مسؤولية نظافة مكان وجوده وإقامته» ص17 .

يحمل عمل الفنان والروائي والأكاديمي علي العلي راهنية قصوى تعمّق الشعور بالاحترام لهذة المهنة، مهنة السل، رغم توجس البعض منها، كونها مهنة المتاعب الشاقة الملوثة بالنفايات، والتي تصيب الكرامات بالضعة. يقول السل، تحت عنوان «جبلة وتموضع»: «بعد مضي ردح طويل من الزمن أنزلت الخامات الحديدية التي كنت جزءاً منها من موضع التخزين الرطب، ما أثار قلقي. تعودتُ الاستقرار في موضعي حيث كنا مكدسين» ص20 .

وإيماناً من الكاتب بأنّ مهنة السل إنما هي مسؤولية أخلاقية وإنسانية واجتماعية وتربوية ترتقي إلى مستوى رسالة إنسانية كبرى، نراه يبحث عن مخرجات موصلة لمواطن المعرفة. نراه يقول في ولادة كورنيش النزهة 30-36 : «هذه الأنقاض المجبولة بالدم والبؤس، شكلت موضوعاً خلافياً لإنشاء مرافئ غير شرعية للممنوعات وإنّ هذا الكورنيش، يحتضن أجساد الفقراء وضحايا الحروب. لا شروى لهم فيها ولا نقير» ص31 .

فالجهدُ المهني المتميز للكاتب والذي يحرص عليه في بدايات عمله، إنما يعدّ مصدر إبداع وتفوق. وكان على الكاتب أن يحضر كلّ يوم إلى «سل الزبالة المتبصر» وأن يقف على خاطره ويستنطقه حكم التاريخ الطويل مع المعاناة اليومية أمام الكورنيش والبحر والناس، يستقرئ أقدام وأحلام وأيدي وأبصار وأهواء وغايات العابرين به مع الأنسام البرية والبحرية. يقول في «عبق من التاريخ» 37-45 ، مقتبسا من غاستون لاشلار، في كتابه «الماء والأحلام»: «إنّ لبعض الأشكال المتولدة من المياه مقداراً أكبر من الجاذبية والكثافة والإلحاح: حيث تدخل أحلام اليقظة أكثر مادية وعمقاً، ويلتزم كوننا الخاص بالعمق، ويحلم خيالنا عن قرب أكثر، بالأفعال الإبداعية… ها هو حلم اليقظة ينتهي بأن يبنى على الماء، ويحسّ بالماء مع أكبر قدر ممكن من الكثافة والعمق» ص45 .

يعود كتاب «سل زبالة متبصر»، بطريقة تعليمية، إلى الأسس الأيديولوجية وإلى ولادة وتطور نظام بلدي اجتماعي قاسٍ، يعمل على مراكمة الثروات بلا حدود، وتركيزها في أيدي أقلية، بطمر الأكثرية ودفنها حية في سلال، ودفنها ميتة في سلال. تحت عنوان «الموركس» واللون الأرجواني» 46- 72 : «في هذا الحقل من التاريخ والجغرافيا والساعات الطويلة ليلاً أمكث وحدي»، يقول السل، «في تلك العتمة برفقة تلك الجرذان… عندي فوبيا القوارض. وعلى المقلب الآخر، لا بد من معرفة مواقف زعماء بني إسرائيل. ففي عيون اليهود، يمثل الكنعاني ذلك الآخر المخيف» ص47 . ثم يقول: « فلأعد إلى واقعي وكورنيشي وبحري… إنّ لقلقي ما يبرّره في مخزون ذاكرتي.. « ص72 .

يعمل علي العلي لتنظيم ذاكرة «سل زبالة متبصر»، بحيث يتمكن من استنهاض همه من الركاميات والعاديات والمؤذيات والملوثات والمهملات. يقول تحت عنوان: «عبث الجغرافيا والتاريخ» 73-82 : «إنّ في العالم من الجبابرة والنماريد، من يجرؤ على تحدي الطبيعة لمصالح لا تهمّ سوى مشاريعهم. إنّ الأجداد والفينيقيين، قد باعوا كؤوساً ذهبية لشرب النبيذ في إحدى ممالك المايا في أميركا الجنوبية، ثم تبين أنها كانت من النحاس المطلي بالذهب» ص73 . ثم يقول على لسان السل: «لا يزال البحر المتوسط أمامي ببهائه وسلطانه. وسبحان الحي الباقي». ص82 .

يشارك «سل زبالة متبصر» المفكرين في أفكارهم والمؤرخين في رواياتهم وصناعاتهم والفلاسفة والحقوقيين: في قراءة كف البحر وكف الدهر وكف الشر، كخبير أو كشخصية إعلامية، أو مخبر متخف أو من العسس الأميري، في مجمع العابرين والراحلين. وهو يساهم، بشكل أو بآخر، في إطلاق سراح الجراذين تحته تبصم بنعالها على وجه العالم وتبصم بأنفاسها على تجاعيد موج البحر وبأعينها على الأفق والرياح والأشرعة. تقرض شرشف البحر الأبيض تحت سرير المدينة العارية، وترفع ذراعها راية. يقول المؤلف تحت عنوان: «تحقق الأسطورة» 83-91 : «في لحظة تأمل بالأزرق الكبير، شعرت بأنّ من سيقرأ ما رويت، سيخالني حالماً بلا شك.. دعوني أبدأ بالعبارة الأخيرة «الذهب». ثم يقول: «نفكر بمنطق ونتصرف بعاطفة» ـ مقبوساً من ابن خلدون ـ ثم يتساءل: «ولكن أين ما يجري أمامي اليوم»؟ 96 .

إنّ مسيرة الألف ميل تبدأ بخطوة. و»في سل زبالة متبصر»، يضع السل يده على الجرح ويضع قدمه على الأرض ـ أرض الواقع ـ التالف المدمى تحت الركاميات والمهملات، فتكون له عناوين كثيرة:

» تقنية حديثة وتمظهر» 92-97 ، حيث يتحدث عن «سمارت موبايل» وعن الفوتوغرافيين وعن عدد «اللايكات» وعن «الدبدوبة» المرمية في السل. ويتساءل ويتساءل: «هل يصعب علينا الاعتراف بنقاط ضعفنا. لكن أليست هي ما يجعلنا بشراً؟» ص97 .

يتبع «سل زبالة متبصر» قواعد السلوك المهني في عمله كفنان وناقد وقارئ وكاتب ورسام تشكيلي. يتوخى الدقة والموضوعية، كقارئ حصيف، في إثارة المسائل والقضايا الشائكة التي تعاني منها الإنسانية، فضلاً عن احترام الذات والآخر في السرد والتحليل والاستنتاج، مبتعداً عن خطاب الحقد والغضب والمقت والكراهية، ومستفيداً من الحكماء والأعلام الكبار وتجربتهم في المعاناة. يأنس بالنفايات ويقف أمام كاتبه يقول: «لا تستهتر بالنفايات» ص98-108 : «في لبنان حيث أزمة النفايات تتقدم على سائر الأزمات.. لا تحدثني عن الوساخة والتلويث، حيث تحار بالإجابة» ص108 .

وتحت عنوان «فروقات وتباين»، نراه يتحدث عن تباين العادات الغذائية بين الميسورين والمعوزين وعن سموم العوز والفاقة والفقر. يقول ملخصاً كل هواجسه: «اليوم، بعد نحو سنتين وأكثر على إقفال محاور القتال، بين باب التبانة وبعل محسن، تبدو هذة الأحزمة بلا وظيفة تركت إليها» ص113 . وتحت عنوان: «عائلة محلية» ص114-119 ، يتحدث عن كزدورة عائلة على الكورنيش، ويناقش مسألة تقدم الرجال على النساء، ويشكو من المجتمع الذكوري الدهري. ويذكر بدور الأم، فيقول: «ألا ننسى دور الأم». ثم يستحضر النساء الفاعلات في الغرب والشرق. فلماذا يتقدم الرجل على المرأة، يسأل السل؟

وتحت عنوان «نهاية الأجل» 120-124 ، يشكو السل من عامل النفايات كل يوم. لكنّ قدره أن يرى من يحول «الخسيس إلى نفيس». وهوخطاب تشكيلي واضح المرامي»، يجعل الكل أمام الكل ص121 ، غير أنه يفلسف في النهاية حضوره، ويستحضر التاريخ. وعنده أنّ السل من البلد، مهما قيل عنه أنه أجنبي، مادام حديده أجنبي فإنّ النفايات تصنع له معناه، وتصنع له وطنه، وتمهد وتمدّد وتسهد له موطنه، مثلما تصنع وتحدّد الوحوش الشاردة، وطنها وموطنها ببولها. ص124 .

حقاً أفاد الصديق والزميل د. علي العلي من تعدّدية وجوهه الثقافية، ففتح الطريق لنفسه والآخرين، أمام بروز نوع من الكتابة التعبيرية الشخصية الشاخصة والمعلمة والمتألمة والصارخة بأوجاع الدهر، للحديث عن ضرورة تشكيل مجتمع متساوٍ يحلم به الجميع في شكل يوتوبيا.

أستاذ في الجامعة اللبنانية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى