رواية «انقطاعات الموت»…هناك الموت شافياً

محمد رستم

يتخذ خوزيه ساراماغو من «انقطاعات الموت» عنواناً لمرويّته، وحبذا لو أنه اختار «انقطاع الموت» لكانت العبارة أكثر وقعاً، لأنّ الانقطاعات تفيد الغياب والحضور المتكرّر، وهذا يفقد الغياب وهج التأثير..

الرواية انموذج جهير لرواية الفكرة إذ تقوم على بنية ذهنيّة افتراضية، مما يقربها من الفانتازيا، ويلعب المؤدّي الفكري دور البطولة فيها. فالحدث بسيط ويفتقر إلى التنامي المعماري، وكما نعلم تجنح الروايات الفكريّة دومًا إلى الحالة الإشكاليّة بحيث تكون مفتوحة على فضاءات التأويل، بدءاً من تعطيل الراوي لحراك الزمن وإشكالية توقف الموت، رمى بمنجزه إلى خانة الإشكاليّة فحضر على الفور البعد الغرائبي في عالمها.. والعمل يتناول القضيّة الأكثر حضوراً وأهميّة ورهبة في حياة الإنسان الموت ، والمعروف أنّ الموت هو الذي يحدث ارتباكاً هائلاً في النفوس إذ تحدث الصدمة حين يكشّ ملك الموت بيادقه عن رقعة بياض الحياة، وليس انتهاء الموت هو من يحدث الصدمة..

ولمّا كان الحاضر دوماً في أعماق الإنسان هو هاجسه بعمر مديد لا ينتهي ولما كان الإنسان يئنّ تحت سطوة المدى المجدي لحلم الخلود تأتي المرويّة لتحقق هذا الحلم.. فحينما عطّل الكاتب آلة الزمن استمرت الحياة.

ومن جهة ثانية توضح الرواية مضار هذا الخلود، وما يحدثه من بلبلة وتخبّط ليعود فيؤكّد ضرورة وجود الموت، وهنا يسقط الكاتب ورقة التوت عن عورة مسلّماتنا وسعينا الحثيث لنيل الخلود. إنّه يهزّ شجرة قناعاتنا فتساقط ثمار الخيبة مما كنّا نستكين له ونتوق لتحقيقه..

ومنذ الحروف الأولى للمنجز يضعنا الكاتب في قلب الحدث، وهو «توقف الموت» حيث يجعل منه جزرة غواية.. فيستعرض المفارقات في لعبة الحياة ليجلي أنّ هاجس البشرية، التوق الأكثر حضوراً وإلحاحاً في الكينونة منذ الصرخة وحتى الشهقة إنّما هو الإسراف في العدو السرابيّ وراء الخلود..

والكاتب ببراعته يجعل الخلود ينفتح على صحراء من اللا جدوى والعبثيّة والاكتظاظ ما يكشف أن الإنسان كان تائهاً حين أمضى عمره وهو يخبز أرغفة الدعاء ويتيمم بتراب التبرك بطهارة المقدسات وحروف الآلهة، فيغدو كلّ ما قام به من استجداء وعبادات، إنما هي أفعال عرجاء تستدعي السخرية… ويعرض الكاتب أيضاً أبعاد المشكلة التي تسبّب بها توقّف الموت. هذا الحدث الصادم باعتباره غير مدرج على رزنامة الزمن، إذ تغدو الحياة مغمّسة بالأنانيّة جافة ماديّة قاسية مثل وجه المقبرة، فيجمد الإنسان مدهوشاً عند إشارات الخوف متأرجحاً على ضفيرة الضياع وكلّ همّه أن يلمح ومضة من بريق أمل.

لقد فجّر الكاتب بضربة معلّم قنبلة فكريّة نفسيّة، جعلتنا نقف ونفرمل الاستسلاميّة الانسيابيّة لقناعاتنا وتفكيرنا ونظرتنا لما نحمل من مفاهيم حول الحياة والخلود، فالموقف محيّر حدّ الاختناق حين تطرح المرويّة أسئلة وجوديّة تستبيح كياننا. وواضح أنّ ما طرحه النصّ هي أسئلة في رحلة الوجود، حيث غدا الإنسان مشنوقاً على جدران الإشكاليّة الجديدة فلطالما كانت الإجابة عن السؤال الذي طرحته المرويّة برسم التأجيل وغير قابلة للبحث..

أمّا الآن فإنّ الإنسان الذي خطف توقه للمعرفة من مواقد هوميروس بات يواجه بأسئلة وجوديّة تستبيح كيانه وأضحى يخوض في بحيرة المستحيل بوصلته خاوية سمته الهباء وجهاته السراب من وهم القناعات.

الكاتب يقدّم حالة بائسة للخلود، وهو خلود أرضيّ محكوم بمعطيات الواقع وليس خلوداً إلهيّاً كما في أذهاننا خلود يفرّخ اكتظاظاً واختناقات في كلّ مناحي الحياة.. وهو بذلك يقوم بتعرية مجتمعات الفساد السياسيّ والدينيّ والاجتماعيّ وزيفها حين يضعنا أمام المعرفة المقلقة، كاشفاً لنا عن الأقنعة الأكثر تفاهة ويفضح قذارة السياسيين ولعبهم على الحبال لضمان استمرارهم «فهم يتعاملون حتى مع المافيات»، كما يفضح خطاب موظفي الله حيث يشكّل الموت والبعث أساس هذا الخطاب، والكاتب هنا ينتصر للأرض ضد عوالم السماء المغلقة وللمحسوسات ضد المجرّد المعمى.. وأخيراً للإنسان ضد الفكر الغيبي الميثولوجي.

وفي المرويّة يغدو الموت أمنية «إذا لم نمت فلا مستقبل لنا» ومن المرويّة، «لقد صرنا نتحسّر على نعمة الموت»..، «وهنا نذكر قول المتنبي.. كفى بك داء أن ترى الموت شافياً.. وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا»، وبذا تفتّح وعينا الحاد بجوهر إنسانيتنا المتعفن الفاسد «حيث تظهر الأنانيّة ورغبة الناس بقتل أقاربهم من كبار السنّ والمرضى».

لطالما كان هاجس الإنسان أن ينسج من طقوس الأحزان الحياتيّة تفاصيل عرس الفرح وذلك باختراع النعيم الأبدي كتعويض عن ألم مؤقت بسعادة مقيمة وكم ستكون صدمته كبيرة عندما يكتشف أنّه قبض على كمشة من ريح وأنّ رحلته عبثيّة، هي خيبة من اكتشف فساد كومة الثوابت التي كان يتّكئ عليها. ولعل الجانب المشرق في المرويّة هي اختيار «موت» الموسيقي كعشيق لها وإدخاله الخلود.. إشارة إلى أنّ الموسيقى هي عبير الروح الخالدة.

ومع أن المؤدّى الذي يصرخ به النصّ هو أنّ الموت إنّما هو الوجه الآخر لسجّادة الحياة ولا يكتمل نصاب الوحدة الموضوعيّة للوجود إلّا به، فالموت والحياة جناحا الوجود في تحليقه إلى ما لا نهاية. نقول، ومع أنّ المؤلّف يساريّ حتى العظم، إلّا أنّ فكرة «أنّ الموت حلّ ضروري لمشكلات الحياة»، تلتقي مع ما طرحته الرأسماليّة من أن الحروب هي الحلّ الأمثل لمواجهة زيادة عدد السكان وهذا يبتعد عن خط الكاتب السياسيّ.

هذا وقد طغت طريقة السرد كتعليق على غالبية الفضاء السردي وكثيراً ما كان الكاتب يتّخذ هيئة المحاضر، بل هو محاضر مع شيء من شطحات الخيال وبرزت السخريّة المبطنة في الكثير من المواقف، «مناظرة بين ثلاثة اختصاصيين بالظواهر الخارقة، ساحران ومنجّمة».

أخيراً لا بد من الإشارة إلى أن هذه المرويّة تتملّك القارئ بما فيها من ألق الفكرة الصادمة.

كاتب سوري

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى