الأديب السوداني أسامة الطيب: دمشق مدينة تنادي على اسمك كل شوارعها ونوافذها تشرّع مناديلها في وجهك

حاوره للبناء: طلال مرتضى

لست أدري.. هل هو إبن ماء أم تراب؟

في محياه أنهار جارية لا مستقرّ لها، وعلى كفيّه ينام «حمام الدوح» مطمئناً لا كما عندما يتأرجح على أسلاك البرق.. هكذا أنجبته أمه جارحاً، كما اسمه لا يحطّ إلا فوق الشمم، وفي سمرة كفّه يحطّ البياض بسمن كرم النفس.

«البناء» كان لها لقاء مميّز مع الأديب السوداني أسامة الطيب المقيم في بلجيكا ونثر دهشة حرفه عطراً، ننقل إليكم تفاصيل اللقاء في ما يلي.

أنت أديب عملت على تأصيل منجزك الأدبي على حساب اسمك، هل لنا فرصة التعرّف على أسامة الإنسان؟

ـ أسامة معاوية الطيب، أنا بعض ما فاض من معاوية الطيب الشاعر الذي أودع قصائده ديواناً أسماه «هواجس»، وأخذه الموت بعيداً قبل أن نقرأه معه، توفي بحادث سير وأنا ابن تسع سنوات، ولكنه ظل مشروعاً يتحيَن علي عرضه وإعادة قراءته حتى ولو على طريقتي. أكتب الشعر منذ سنوات طويلة، ربما انحيازاً لمسيرة والدي، وربما تعبيراً عنها، لكنني منذ عشر سنوات بدأت في كتابة القصة القصيرة، لأني كنت قد بدأتُ تجربتي الصحافية، حيث كتبت في الملحق الثقافي بصحيفة الخليج الإماراتية، عن الشأن الثقافي السوداني بتحريض من الشاعر والأديب اللبناني حينها الأستاذ أحمد فرحات، وهي الفترة التي أنتجت «شجرة الذاكرة» في العام 2008، وإصدارها عن «دار الفارابي» في بيروت. لا أذيعك سرّاً أن مشروع «شهوات النعناع» بدأ حتى قبل المجموعة القصصية، لكنني تأخرت كثيراً لأنني لم أكن قد تخلّصت من وشائج الشاعر القلقة المتقلّبة الرافضة، وربما في انتظار ذلك العقد غير المعلن بين الشاعر والروائي في الاتحاد للكتابة، على أن يظلّ الشاعر حفياًّ بالروائي، والروائي ليس خائناً تماماً للشاعر، ولكن لكل منهما تمرّده وعوالمه الخاصة العصيّة على الاكتشاف، في تصالح يخدم كليهما.

إضافة إلى أنه للشعر عندي مهمته وعوالمه، وللرواية مشاريعها وأكوانها، وأنا ما زلت أحلم وأتصعّد في فضاء الجمع بين الحسنيين.

بعد مطالعتي روايتك الجديدة «شهوات النعناع» وجدت بأنك ظلمتها بدائرة المكان، لماذا؟

ـ مطلقاً، الرواية تحتاج لمكان تنبت فيه، لكنها لن تثمر فقط بين تضاريسه المادية، ستثمر في الفضاء الإنساني كلّه، وستلقى ببذورها في أمكنة ساحرة أخرى لأن فضاء الأفكار والرؤى وحتى الأحلام لدى القارئ يخلق كونه الخاص ومدنه الضاجَة بالحيوات، الناعسة والمتحفّزة، الحالمة والبائسة، المتحررة وحتى المحتلة بالراهن والماضي والمتوقع. المكان يتوزع بتواطؤ غريب بين الحدود الجغرافية والحدود الإنسانية في مخيلة القارئ، ولذا حينما قرأنا الأدب اللاتيني تداخلت لدينا ـ كقراء ـ جغرافيات متعددة، وتضاريس مختلفة، وتداعت أرواح كثيرة صوب دفتي الكتاب، ومشى نملها حيث شاء له الحسّ، كما أنشأنا عوالمنا الموازية والغنية جداً الغامضة والمفتوحة. ومن هنا يخلق النصّ الجيد كاتباً موازياً هو القارئ الحذق الذي لا يتقيّد إلا بتعليماته وإشارات أرواح الكتاب التي يخلقها الكاتب، لكنه لا يفرض عليها كامل مسيرتها وسيرتها، وهنا يكمن سرّ الأحجية وخريطة كنزها.

المكان في الرواية ليس ورطتها، بل هو الدعوة المحرّضة لذائقة القارئ لاستدعاءات أماكنه الخاصة من باب الغواية الأدبية.

هل انتقالك إلى الرواية هو غواية الذهاب عميقاً في التفاصيل؟

ـ الأدب كلّه بجميع صنوفه يقف مباشرة خلف هدف سام، وهو التبشير بالجمال والمحبة، والأخذ بيد القيمة في مشوار طويل يبدأ بالطرق على جمال اللغة ولا ينتهي بالحفر على صخور الفكرة، لهذا فإن كل هذه الصنوف هي بالضرورة اتحاد يعمل دائماً على تحويل الدماء الحارة إلى حبر دافئ، ونقرات القلق إلى نزق حميم يحكّ غلاف القلب، ويفضح أحلامه، لهذا، فإن لرائحة الورق طقسها حين كل قراءة.

هل يمكن الوقوف لبرهة عند روايتك «شجرة الذاكرة»، ما هي تفاصيلها السرّية؟

ـ جاءت «شجرة الذاكرة» في وقت كنت لا أزال أقف عند بحيرة الشعر، فخرجت كسرب بط برّي أليف، أخذت دورتها حول البحيرة ثم تنشقت هواءها وخرجت، جمعت الأفكار وطرحتها ولم تعبأ بالإجابات على أسئلتها الوجودية، لو تيسّرت لك قراءتها لوجدت فيها حوار الهوية القديم في السودان، وصراع الطبقات الاجتماعية الخفي والمعلن، وستائر العيب التي تظلل غرف النخب من داخلها ووجدت فيها صراع الريف الأبدي ضدّ حماقات المدينة، وربما لشاهدت خسرانه أيضاً ولكن بدرجة أكبر سترى أن الحياة تظلل كل ذلك بفكرتها الباهرة، الوجود أجدر أن يعبّر عن غيابه بالحضور لينمو.

اعتاد الكثيرون التطرّق إلى موضوعات السواد في الأدب العربي والعالمي، كرمز للتشاؤم وللعنصرية وغيرها، لقد كسرت المألوف عندما تحدّثت عن الأبيض بأنه هو الشيء النافر والمخالف لتكوينات المكان في روايتك؟

ـ ربما لأن الأبيض لم يُلتفت بعد إلى لا انتمائه للحياة إلا في حالات قليلة ومتنافرة، ربما لأنه أوغل في صدامه مع الذاكرة حتى لم تعد تعبأ به. جئت أنقر عليه أنا وأشاغبه لأوقد حرائق القارئ لاحقاً، ربما.

حفل توقيع الرواية ومناقشتها في فيينا خلق جدلاً واسعاً وتباينات حول استنطاق شخوصك باللهجة المحكية «السودانية البحتة»، حتى أن كثيراً من المداخلات فُهمت خطأ، فالمفردة العامية السودانية التي استخدمتها تحتاج لمترجم ولستُ أدري أن كتبت روايتك فقط لأبناء مدينتك؟

ـ لا بدّ للرواية من واقع صادق تنشأ فيه، وليس أصدق من واقعِ لا يلوّن نفسه، ولكن حتى الحوار في الرواية لا يماثل الـ5 في المئة من مجملها، لذلك فهو يُضفي ملامحه الدافئة فقط، ويترك للقارئ فرصة أن يرى مدينته كما تراءت له. وفي بعض ما أراد الكاتب لها، وأعتقد أنها إضافة للحصيلة البصرية أكثر غنىً، وأشمل ألواناً، وأبقى أثراً.

الدفق النفسي الشائق في «شهوات النعناع» متواتر، كما معنوناته الواطئة، أغنيات الحنين، أغنيات البشارة، أغنيات الرحيل وأغنيات الجسارة، ثمّة يد خفية كانت تعبث بذات القارئ الذي كلما تيقن من أنه وصل إلى ما يملأ قريحته، كنت تتوارى لتتركه حائراً في مغبة السراب، لماذا؟

ـ مهمة الكاتب المشي أمام القارئ حتى يوصله لمنطقة السراب ويعود، بعدها يبدأ القارئ بناء مدينته، وينطلق في شوارعها ودروبها، يستخلص أفكارها ويبادل بيوتها نزق النوافذ والأبواب، وحينها فقط يستطيع أن يعلن وصوله… لذا فإن الرواية اشتملت على أربع أغنيات الحنين، البشارة، الرحيل والجسارة حتى تعلن عن مشروعها فقط، ولكنها تعلق الفأس على كتف القارئ ليقوم بغاراته من بعد.

حدّثنا عن محطتك في دمشق؟

ـ دمشق كانت وما زالت المدينة التي تخصّني، البيوت القديمة، والأسواق القديمة وحتى مجرى بردى الذي قرأناه شعراً وأدباً لزمن طويل. أنا الذي عاش طفولته في نيل القرية، وقليل من شبابه بين أنهار المدينة. دمشق مدينة تنادي على اسمك من كل شوارعها، نوافذها تشرّع مناديلها في وجهك كل حين، وعلى دروبها تجد ريح يوسف دائماً فيرتد إليك بصرك وبصيرتك وكل أغنيات الوجود، دمشق بيتي لأن فيها ما يعبث بطينة القلب والروح، مثلما تفعل الخرطوم، وفيها أقرأ التاريخ وتكتبني الجغرافية بلا حدود بيننا، ولا مسافات.

كلمة أخيرة

ـ وطنك غربتك يا صديق الرياح

وغناؤك باهظ الجراح

ينثر رماد أيامك على ضفاف العذاب

وطنك ارتحالك

على كتفيك نقاط العبور وجوازات السفر

وبين أهدابك الشعرُ ينادي

والمناديلُ جواب

غير بابك القديم

توضأ الرحيل

وصلَّي ألف نافذةٍ وباب

لا عليك ستغني ذات ليلٍ حزينٍ

وطن غيابك هذا

وسيغنيك الغياب.

علمتنا الغربة أن نغني دائماً في وجه البعد، لنبقى قريباً

وعلّمنا القرب أن نطالع في وجوه من نحبّ حتى لا تأخذه الريح من بين أقلامنا

وعلّمنا القلم أن نجاهد للكتابة حتى نقرأ

وعلّمتنا القراءة أن نحبّ ونخلص لنفهم الحياة.

كاتب وإعلامي عربي/ فيينا

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى